فهرس الكتاب
الصفحة 122 من 358

وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [1] [النجم:26] .

وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ} الآيتين [سبأ:22 - 23] .

قال أبوالعباس (2) : «نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مُلْكٌ، أو قِسطٌ منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبقَ إلا [2]

(1) وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] قال أبوحيان: «كم» خبرية، ومعناها التكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر «لا تغني» وإذا كانت الملائكة لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه أي يرضاه أهلاً للشفاعة فكيف تشفع الأصنام لمن عبدها؟.

قال ابن كثير: «وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحدٌ على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كما جاء في حديث الشفاعة: «آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تُشفع» *. الحديث.

وقول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23] ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في الباب الذي قبل هذا.

وفيه: معرفة تفسير الآيات. قاله المصنف رحمه الله تعالى.

(2) قوله: «قال أبوالعباس» : هو شيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام أحمد ابن تيمية

* أخرجه البخاري برقم (4712) ، ومسلم (194) .

رحمه الله ورضي عنه*: «نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عوناً لله ولم يبقَ إلا الشفاعة فبيَّنَ أنها لا تنفع إلا لمن أذِنَ له الرب كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي مُنتفيةٌ يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يُقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسلْ تُعط، واشفع تُشفع» .

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: «وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها قطعاً، يعلم من تأمّله وعرفه أن من اتخذ من دون الله ولياً فمثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل لديه من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الخصال الأربع: إما مالكاً لما يريده منه، فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك، فإن لم يكن شريكاً كان معيناً له وظهيراً، فإن لم يكن معيناً له وظهيراً كان شفيعاً عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً منتقلاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى: الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع، وإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، وكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوءٌ من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخوله تحت الواقع وتضمنه له، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثاً، وهذا الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ولكن

* وهذا المقام لا يتسع لذكر ترجمة هذا الإمام، ومن أراد الوقوف على تاريخ حياته فليراجع «العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام الإمام أحمد بن تيمية» لابن عبدالهادي، وهي في مجلد ضخم. [ابن حمدان] .

الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه: «إنما تُنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية» ؛ لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمَّه وقع فيه وأقرَّه ودعا إليه وصوّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويُكفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدَّع بتجريد متابعة الرسول، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً، فالله المستعان». انتهى ملخصاً.

وقال أيضاً: «ومن أنواع الشرك: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميّت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن من استغاث به وسأله أن يشفع له، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقّصوا الخالق بالشرك وأوليائه الموحدين بذمّهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، وما نجا من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلا من جرّد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرَّب بمقتهم إلى الله واتخذ الله وحده وليَّه وإلهه ومعبوده، فجرّد حبَّه لله وخوفه لله ورجاءه لله، وذلّه لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وقصده لله متبعاً لأمره متطلباً لمرضاته، إذا سَألَ سَألَ اللهَ، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله، فهو لله وبالله ومع الله» . انتهى كلامه رحمه الله.

وقال شيخ الإسلام: «وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق: طرفان ووسط، فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب كالنصارى ومبتدعة هذه الأمة أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن، والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر من أمته بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه، كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه، فأنكروا الشفاعة بقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، وبقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] ، وأما سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة فأثبتوا ما جاءت به السنة عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من شفاعته لأهل الكبائر من أمته وغير ذلك من أنواع شفاعاته وشفاعة غيره من النبيين والملائكة، وقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحدٌ، وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غير وشفاعته والصدقة عنه والصوم عنه في أصح قولي العلماء كما ثبتت به السنة الصحيحة وما كان في معنى الصوم. وأما من علَّق قلبه بأحد المخلوقين يرجوه ويخافه فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة، فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده وإما لخوفه منه، فيحتاج أن يقبل شفاعته، والله غني عن العالمين كلهم فما من شفيع إلا من بعد إذنه فله - صلى الله عليه وسلم - شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميّزه بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه ومن ذلك المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون» . انتهى.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام