وعبوديته باسمه (الآخر) تقتضي أيضًا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بـ (الآخر) سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به. فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له، ولا فلاح، ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده، فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها وإراداتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ. فكما كان واحدًا في إيجادك فاجعله واحدًا في تألهك إليه لتصح عبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه لتصح لك عبوديته باسمه (الأول والآخر) وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه (الأول) وإنما الشأن في التعبد له باسمه (الآخر) فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده" (1) 1)."
ثم يذكر - رحمه الله تعالى - بعض أسرار اقتران اسمي الجلالة (الأول، الآخر) فيقول:"قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] ، فهداهم أولاً فاهتدوا فزادهم هدى ثانيًا ... وهذا من سر اسميه (الأول والآخر) : فهو المعد وهو الممد، ومنه السبب والمُسبَّب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به: (وأعوذ بك منك) (2) 2)" (3) 3).
(1) طريق الهجرتين ص 20، 21.
(2) مسلم 486.
(3) مدارج السالكين 1/ 313 (باختصار) .