فهرس الكتاب
الصفحة 44 من 358

ولا يكتوون [1] ، ولا يتطيّرون [2] ، وعلى ربهم يتوكلون [3] ».

(1) جبريل، والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائلٌ مستعطف ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن، وإنما المراد وصف السبعين الألف بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم استسلاماً للقضاء وتلذذاً بالبلاء».

قوله: «ولا يكتوون» أعمّ من أن يسألوا ذلك، ويُفعل ذلك باختيارهم. قاله في «فتح المجيد» *.

وأما الكيُّ في نفسه فجائز لما في الصحيح عن جابر بن عبدالله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أُبَيّ بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً وكواه.

وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أنه كوى من فات الجنب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي، وروى الترمذي وغيره عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كوى أسعد بن زرارة من الشوكة.

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار، وأنا أنهى عن الكيّ» ** وفي لفظ: «ما أحب أن أكتوي» .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع:

أحدها: فعله. ... الثاني: عدم محبته له.

الثالث: الثناء على من تركه. ... الرابع: النهي عنه.

ولا تعارض بينها بحمد الله، فإن فِعْله يدل على جوازه وعدم محبته لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على من تركه فيدل على أن تركه أفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة». انتهى.

(2) قوله: «ولا يتطيرون» أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، وسيأتي الكلام على الطيرة في بابها إن شاء الله تعالى.

(3) قوله: «وعلى ربهم يتوكلون» أي يعتمدون في أمورهم.

وفيه: معرفة مراتب الناس في التوحيد وما معنى تحقيقه، وأن ترك الرقية والكيّ من

** أخرجه البخاري (5680) .

تحقيق التوحيد، وأن الجامع لتلك الخصال هو التوكل. قاله المصنف رحمه الله تعالى. ولا يدل الحديث على ترك مباشرة الأسباب فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمرٌ فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، فإنه سبب لوقاية الله وكفايته كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي كافيه، وإنما يدل على أنهم يتركون الأسباب المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه فغير قادح في التوكل لما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «ما أنزل الله من داء إلاّ أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله» *.

وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: «نعم يا عباد الله، تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاء غير داء واحد» **. قالوا: وما هو؟ قال: «الهرم» . رواه أحمد.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى [زاد المعاد 4/ 14 - 15] : «وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافي دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوكّل إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضية لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل. فإن تركها عجزٌ ينافي التوكل، الذي هو اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً.

وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح، وتركه أفضل، أو مستحب، أو واجب؟. فالمشهور عن أحمد الأول لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عن

* أخرجه البخاري (5678) .

** أخرجه أحمد (4/ 278) ، وابن ماجه (3436) ، وأبوداود (3855) ، والترمذي (2039) وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 202) برقم (1660) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام