فهرس الكتاب
الصفحة 278 من 358

-فقال: يا رسول الله، إنما كنا

نخوضُ ونتحدَّثُ حديثَ الركبِ نقطَعُ به عناء الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه مُتَعَلِّقاً بنسعَة ناقةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الحجارة تنكبُ رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (1) ؟. ما يلتفت إليه، وما يزيده عليه. [1]

(1) أنشأ الله عفى عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أعني بها تقشعر منها الجلود، وتوجل منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقول أحد: أنا غَسَّلتُ، أنا كَفَّنتُ، أنا دَفنتُ. قال: فأصيب يوم اليمامة فما أحدٌ من المسلمين إلا قد وجد غيره.

وقوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي بهذه المقالة، وهذا هو الشاهد من الآية للترجمة، وفيه الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغفلة على أعداء الله، وأن من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل. قاله المصنف رحمه الله تعالى.

وقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} أي مخشي بن حمير {نُعَذِّبْ طَائِفَةً} أي لا يعفى عن جميعكم، ولابد من عذاب بعضكم أنهم {كَانُوا مُجْرِمِينَ} أي بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة. انتهى. وفي الآية: دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يعذر بذلك بل يكفر، وعلى أنَّ السابَّ كافر بطريق الأولى. نبَّه عليه شيخ الإسلام. قاله في «الشرح» *. وقال شيخ الإسلام [كتاب الإيمان ص/259] : «أمره الله أن يقول لهم {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح؛

لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يُقال: قد كفرتم بعد

إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أُريد أنكم

* (ص/537) .

أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يُظهروا ذلك إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا هكذا بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل عليهم سورة تبيِّن ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين»، وقال أيضاً: «أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له. بل إنما كنا نخوض ونلعب. وبيَّن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدراً بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبيِّن أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] ، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] ، فنفى الإيمان عمن تولَّى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبيَّن أنّ هذا من لوازم الإيمان» . انتهى.

وفيه: أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به، وأشدّها خطراً إرادات القلوب فهي البحر الذي لا ساحل له.

ويفيد: الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه. قال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه. نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة. قاله في «الشرح» *.

* (ص/540 - 541) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام