وروى عبدالرزاق عن مَعْمر عن ابن طاوُس عن أبيه، عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض لَمّا سمع حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَق هؤلاء؟ يجدون رِقّة عند مُحكمه، ويهلكون عند متشابهه. انتهى (1) . ولما سمعت قريشٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرحمنَ، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] [1] .
(1) قوله: «وروى عبدالرزاق» بن همام الصنعاني، محدّث اليمن، صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن شيخه معمر بن راشد صاحب الزهري، ومَعْمَر
ـ بفتح الميمين وسكون العين - ابن راشد أبوعروة بن أبي عمرو بن راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيراً «عن ابن طاوس» وهو عبدالله بن طاووس اليماني، قال معمر: أعلم الناس بالعربية.
وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وأبوه طاووس ابن كيسان الجَنَدي - بفتح الجيم والنون - الإمام العلم، قيل اسمه ذكوان قاله ابن الجوزي «عن ابن عباس» وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل» * روى عنه أصحابه أئمة التفسير كمجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاووس غيرهم «أنه» أي ابن عباس «رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصفات استنكاراً لذلك. فقال: ما فَرَق هؤلاء؟» ** يستفهم من أصحابه يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس يجدون رقة عند محكمه أي إذا سمعوا شيئاً من محكم القرآن ومعناه حصل معهم رقة أي خوف «ويهلكون عند متشابهه» أي إذا سمعوا شيئاً مما يشتبه علهيم فهمه لا أن آيات الصفات هي المتشابه كما تقوله الجهمية ونحوهم. قال شيخ
* أخرجه الإمام أحمد (1/ 266، 335) ، والطبراني في الكبير (10587) ، والحاكم (3/ 534) وصححه ووافقه الذهبي.
** أخرجه عبدالرزاق (20895) ، وابن أبي عاصم في السنة (485) بسند صحيح.
الإسلام [الفتاوى 13/ 294 - 295] : «وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله فما أعلم عن أحدٍ من سلف الأمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه، ونفى أن يُعلم معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته من الكلام الأعجمي الذي لا يفهم معناه، ولا أن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحدٌ معناه، وإنما قالوا كلمات الله لها معان صحيحة.
وقالوا في أحاديث الصفات تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي معناها تعطيل النصوص عن ما دلّت عليه، ويقرون النصوص على ما دلّت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، وكذلك نصّ أحمد في كتاب «الرد عل الزنادقة والجهمية» أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن، وتكلّم أحمد على ذلك المتشابه وبيَّن معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية، وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله - رحمه الله -.
قال الذهبي: «حدث وكيع عن إسرائيل بحديث «إذا جلس الرب على الكرسي» فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيعٌ وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها». أخرجه عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب «الرد على الجهمية» .
فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يفهموا معناه من الكتاب والسنة وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى فيحمله على غير معناه كما جرى لأهل البدع كالخوارج والرافضة والقدرية ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته.
وسبب هذه البدع: جهل أهلها وقصورهم في الفهم وعدم أخذ العلوم الشريعة على وجهها وتلقيها عن أهلها. فالتشابه أمرٌ نسبي إضافي، فقد يكون مشتبهاً بالنسبة إلى قوم بيناً جليّاً بالنسبة إلى آخرين، ولهذا لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوم يتراجعون في القرآن غضب، وقال: «بهذا ضلّت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم،