وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [1]
(1) «وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:151 - 153] .
قال ابن كثير [التفسير 3/ 354] : «يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرّموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم الفاسدة، وتسويل الشيطان لهم، تعالوا: أي هلموا وأقبلوا،
أتل: أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً، لا تخرُّصاً ولا
ظناً بل وحيٌ منه وأمر من عنده وأن لا تشركوا به شيئاً، وكأن في الكلام محذوفاً
دلّ عليه السياق تقديره وصاكم أن لا تشركوا به شيئاً، ولهذا قال في آخر الآية:
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} . انتهى.
وشيئاً نكرة تعم كل ما عُبد من دون الله، والنهي عن الشرك يستدعي التوحيد بالاقتضاء وهو الشاهد من الآية للترجمة؛ قال في «قرة العيون» *: «وقد وقع الأكثر من متأخري هذه الأمة في هذا الشرك الذي هو أعظم المحرمات كما وقع في الجاهلية قبل المبعث، عبدوا القبور والمشاهد والأشجار والأحجار والطواغيت والجن، كما عبد أولئك اللاتَ والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام والأوثان، واتخذوا هذا الشرك ديناً، ونفروا إذا دُعُوا إلى التوحيد أشدَّ النّفرة، واشتدّ غضبهم لمعبوداتهم كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] .
وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} الآية [الصافات:35] علموا أن «لا إله إلا الله» تنفي الشرك الذي وقعوا فيه، فأنكروا التوحيد الذي دلّت عليه؛ فصار أولئك المشركون الأولون أعلم بمعنى «لا إله إلا الله» من أكثر المتأخرين، لا سيما أهل العلم منهم، الذين لهم دراية في بعض الأحكام وعلم الكلام، فجهلوا توحيد العبادة فوقعوا في الشرك المنافي له وزيّنوه للناس، وجهلوا توحيد الأسماء والصفات وأنكروه أيضاً، وصنفوا فيه الكتب؛ لاعتقادهم أنه حق وهو باطل، وقد اشتدّت غربة الإسلام حتى عاد المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ» **».
وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وامتثال أمرهما وحفظهما وصيانتهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما.
وإحساناً منصوب على المصدرية، وناصِبه فعلٌ من لفظه تقديره «وأحسنوا»
* (ص/18 - 19) .
** ... أخرجه مسلم (145) ، وأحمد (2/ 389) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
بالوالدين إحساناً.
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} الإملاق: الفقر، أي: لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكأن منهم من يفعل ذلك بالإناث خشية العار، وبالذكور خشية الافتقار.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» . قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» . قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» .
ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ} الآية [الفرقان:68 - 70] *.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال ابن عطية [المحرر الوجيز 6/ 179] : نهي عام عن جميع الفواحش وهي المعاصي، وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء. وقيل: الظاهر ما بينك وبين الخلق، والباطن ما بينك وبين الله.
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} قال ابن كثير: هذا مما نص الله على النهي عنه تأكيداً، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش. وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» **.
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قال ابن عطية [المحرر الوجيز 6/ 180] : ذلكم إشارة إلى هذه المحرمات، والوصية: الأمر المؤكّد المقرر.
* أخرجه البخاري (4477، 6861) ، ومسلم (86) .
** أخرجه البخاري (6878) ، ومسلم (1676) .
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تفهمون عنه ذكراً ولا تعقلون، ثم تذكرون، ثم تتقون؛ لأنهم إذا عقلوا تذكروا، فإذا تذكّروا خافوا واتقوا المهالك.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال ابن عطية [المحرر الوجيز 6/ 180] :
هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سدّ الذريعة ثم استثنى ما يحسن وهو التثمير والسعي في نمائه. قال مجاهد: التي هي أحسن التجارة فيه، فمن كان من الناظرين له ما يعيش به فالأحسن إذا ثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرهما، ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف.
قال ابن زيد: وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال مالك وغيره: هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ. قال ابن عطية: وهو أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع ويدل عليه قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فاشترط للدفع إليهم ثلاثة شروط:
الأول: ابتلاؤهم وهو اختبارهم وامتحانهم بما يظهر به معرفتهم لمصالح أنفسهم وتدبير أموالهم. والثاني: البلوغ. ... والثالث: الرشد. ...
وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} والقسط: العدل، {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه فأخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه.
وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} هذا أمرٌ بالعدل في القول والفعل على القربب والبعيد، لا يتغير بالرضى والغضب.
وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} قال ابن جرير وغيره: وبوصية الله التي وصاكم بها فأوفوا. قال في «الشرح» *: والظاهر أن الآية فيما هو أخص كالبيعة والذمّة
* (ص/39 - 40) . و «الشرح» أي «تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد» لمؤلفه الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب - رحم الله الجميع -.
والأمان، فهذا هو المقصود بالآية، وإن كانت شاملة لما قالوا بطريق العموم.
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي تتعظون فتنتهوا عما كنتم عليه.
وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} لما نهى وأمر حذر عن اتباع غير سبيله، وأمر باتباع طريقه، فإن الصراط الطريق الذي هو دين الإسلام مستقيماً ومعناه مستوياً قويماً لا إعوجاج فيه، فأمر باتباع طريقه الذي طرقه وشرعه على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونهايته الجنة،
ونهى عن اتباع السبل، وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: خطَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً بيده ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيماً» ، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: «وهذه سُبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} *.
قال شيخ الإسلام على حديث ابن مسعود هذا [الفتاوى 4/ 57] :
«وإذا تأمَّل العاقل هذا المثال وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية والرافضة ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرَّامية والكلاّبية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدَّعي أن سبيله هو الصواب وجد أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يُوحى» . انتهى.
وقال أيضاً: «الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات
وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضاً عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع و الافتراق والسفر والإقامة، وغير ذلك، وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما - ولابد - ارتباط
* أخرجه أحمد (7/ 207، 436) ، والحاكم (2/ 318) وصححه وأقره الذهبي.
ومناسبة». انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله [بدائع الفوائد 2/ 40] : «ولنذكر في الصراط قولاً وجيزاً، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته. وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، وهو إفراده بالعبادة وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يُشرك به أحد في عبادته، ولا يشرك برسوله أحداً في طاعته، فيجرّد التوحيد ويجرّد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فأي شيء فُسِّر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين» . انتهى.