فهرس الكتاب
الصفحة 16 من 358

وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] [1] .

(1) إحسان في سر وفي إعلان ... فتقوم بالإسلام والإيمان و والـ

ذلك التوحيد كالركنين للبنيان ... والصدق والإخلاص ركنا

وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو: اعتقاد أن الله وحده خلق العالم كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، فإن الرجل لو أقرّ بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزّهه عن كل ما يُنزَّه عنه، وأقرَّ بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحداً حتى يشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فيُقرُّ أن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له.

وقوله: فتقوم بالإسلام والإيمان والإحسان: كما في حديث جبريل.

وقوله: والصدق والإخلاص ركنا ذلك التوحيد: أي توحيد العبادة، فمن لم يكن صادقاً فهو منافق، ومن لم يكن مخلصاً فهو مشرك، فلابد في قول لا إله إلاّ الله من الصدق والإخلاص.

قوله: «وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} بالجر عطف على التوحيد، ويجوز الرفع على الابتداء. قال القرطبي [الجامع لأحكام القرآن 1/ 225، 17/ 56] : أصل العبادة التذلل والخضوع. وسُميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين لله تعالى. انتهى. فهي عبارة عما يجمع كمال المحبة مع غاية الخضوع فلا تكون المحبة بدون خضوع عباده، ولا الخضوع بدون محبة عباده.

قال العلامة ابن القيم [الكافية الشافية (64) ] :

مع ذل عابده هما قطبان ... وعبادة الرحمن غاية حبه

ما دار حتى قامت القطبان ... وعليهما فلك العبادة دائر

لا بالهوى والنفس والشيطان ... ومداره بالأمر أمر رسوله

شَبَّه دوران العبادة على المحبة والذل للمحبوب جل وعلا بدوران الفلك على قطبيه، وذكر أن دورانه بأمر الرسول وما شرعه لا بالهوى وما تأمر به النفس

والشيطان فليس ذلك من العبادة.

وقال الفقهاء: العبادة ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرقي ولا اقتضاء عقلي. وقال شيخ الإسلام: العبادة اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

قلت: الظاهرة: أعمال الجوارح، والباطنة: أعمال القلب. قال: والعبودية خاصة وعامة، فالعامة عبودية أهل السموات والأرض كلهم، برُّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية الملك والقهر، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] ، وأما الخاصة فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18] . وأما قوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:40] فهذا يتناول العبوديتين. انتهى.

قال ابن القيم: ومدار العبادة على خمس عشرة قاعدة، من كملها فقد كمّل مراتب العبودية؛ لأنها منقسمة على القلب واللسان والجوارح، والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح، وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح، فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه عن نفسه وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه، وقول اللسان الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذَّب عنه وتبيين البدع المخالفة له والقيام بذكره وتبليغ أوامره، وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر له على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضى به وعنه والموالاة فيه والمعاداة، والذل له و الخضوع والإخبات إليه، والطمأنينة به وغير ذلك، وأعمال الجوارح كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمع والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك.

واللام في قوله: {لِيَعْبُدُونِ} لام التعليل المعروفة عند النحاة بلام كي، كاللام في

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام