وهذا أمر إنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاء، ولهذا كان أقربَ الخلق إلى الله وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا وأرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه، وكان يقول لهم: (أيُّها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي إنما أنا عبد) (1) .
وكان يقول: (لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى المسيحَ ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) (2) ، وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته، مقام الإسراء ومقام الدعوة ومقام التحدي فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] ، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) } [الجن: 19] ، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ، وفي حديث الشفاعة: (إنَّ المسيح يقول لهم اذهبوا إلى محمدٍ عبد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر) (3) ، فنال ذلك المقام بكمال عبوديته، وبكمال مغفرة الله له.
فتأمل قوله تعالى في الآية: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] باسم الله دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر، فإنه كما تقدم نوعان: فقر إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها، وفقر إلى ألوهيته وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع، والذي يشير إليه القوم ويتكلمون عليه، ويشيرون إليه هو الفقر الخاص لا العام، وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له، كلٌّ أخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير" (4) ."
(1) الطبراني 3/ 128 ح (2889) ، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 21.
(2) البخاري (3445) .
(3) البخاري (4476) .
(4) طريق الهجرتين ص 10 - 13.