قبلته وأجزته، فترد ما خالف هواك، وتقبل ما وافق هواك، وهذا الاحتجاج والذي قبله مفحمان للخصم لا جواب له عليهما البتة، فإنَّ الأخذ ببعض الكتاب يوجب الأخذ بجميعه، والتزام بعض شرائعه يوجب التزام جميعها، ولا يجوز أن تكون الشرائع تابعة للشهوات؛ إذ لو كان الشرع تابعاً للهوى والشهوة لكان في الطباع ما يغني عنه، وكانت شهوة كل أحد وهواه شرعًا له: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ... } [المؤمنون: 71] » [1] .
يقول سيد قطب رحمه الله عند هذه الآية مُبَيِّناً استكبار الجاهلية المعاصرة عن الحق: «ومحاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارئ والنزوة المتقلبة، ظاهرة تبدو كلَّما فسدت الفطرة وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته. المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت - غير المصدر الإنساني المتقلب - مصدر لا يميل مع الهوى، ولا تغلبه النزوة. وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب، والصحة والمرض، والنزوة والهوى، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى!
ولقد قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها بهم الله، فلمَّا وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل، وطرحوا منهج الله وشريعته، وَحَكَّموا أهواءهم وشهواتهم، وقتلوا فريقًا من الهداة وكذبوا فريقًا، ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل من الفرقة والضعف، والذِّلة والهوان، والشقاء والتعاسة، إلا أن يستجيبوا الله ورسوله، وإلا أن يُخْضِعُوا أهواءهم لشريعته وكتابه، وإلا
(1) «بدائع الفوائد» (4/ 122) .