قد يكون هذا الذي ذهب إليه ابن خلدون صحيحًا بالنسبة للدول الجاهلية التي تقوم على مقومات بشرية كالعرق واللون واللسان ونحوها، أمَّا الدول التي تقوم وتنشأ على أسس ومقومات شرعية ربَّانيَّةٍ، فالأمر فيها مختلف تمامًا؛ إذ تجري عليها سنّة أخرى تختلف عن «سنّة الشيخوخة» وهي التي أوضحها الله - تبارك وتعالى - في كتابه العزيز، فقال: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] ، فيوم تنحرف الدول عن الأسس الصحيحة التي تقوم على أساس الدين والعقيدة، ويَدِبُّ فيها داء الترف، ويتسلط عليها المترفون: الذين يجرون الدولة والأمة إلى الزوال؛ بإشاعة الفساد في الأرض التي طهرها الله ببعثة الرسل وإنزال الكتب، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] .
قال القاسمي رحمه الله: قال القاشاني رحمه الله: «إنَّ لكلِّ شيء في الدنيا زوالًا، وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أنَّ زوال البدن بزوال الاعتدال، وحصول انحراف يُبْعِدُهُ عن بقائه وثباته، فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها عن الحياة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام، فإذا جاء وقت إهلاك قرية، فلا بُدَّ من استحقاقها للهلاك، وذلك بالفسق والخروج من طاعة الله. فلما تعلقت إرادته بإهلاكها، تقدمه أولًا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعُّم بطرًا وأشرًا بنعمة الله، واستعمالًا لها فيما لا ينبغي. وذلك بأمر من الله وقدرٍ منه، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم. وحينئذٍ وجب إهلاكهم» [1] .
(1) «محاسن التأويل» (4/ 581) . وانظر: «السنن الإلهية» (ص 187) د. عبد الكريم زيدان.