والنواهي، وخلق العالم الثاني وهي الآخرة للجزاء الوفاق خالدين، فجعل أمور الدنيا معلّقة بالأسباب امتحانا وابتلاء، على ما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] ، وامتحن الملائكة بمحن متنوّعة، بعضهم بالكون مع السّحاب والأمطار، وبعضهم يكتبون أعمال البشر، وكلّ شيء قبل الخلق عنده مستطر، وليعلموا أنه يرزق خلقه بلا مؤنة، وأنّه امتحن البشر بالشكر والصّبر بالأسباب المذكورة، وكلّ ذلك للمحنة لا للاستعانة، وكفى دليلا على تحقيق ذلك قيام السّماء مع عظمها وسعتها في الهواء، وقيام السحاب الثّقال مسخّرا بين السماء والأرض.
وأما قولهم: (مميت بلا مخافة) ، فإنما قالوا ذلك لاستحالة ورود الضّرر عليه منهم، حيث أخرجهم إلى الوجود من العدم، ثمّ خوّلهم وقوّاهم به لا بأنفسهم، فلم تكن إماتته إيّاهم لمخافة منهم، إذ هو العزيز القهّار المتفرّد بالدّوام والبقاء، القاهر لعباده بالموت والفناء، أنشأهم ليكون إنشاؤه دليلا لهم على أنّ لهم موجدا قديما أوجدهم بقدرته لا لحاجته، بل لظهور عظمته وتعاليه، ولذلك جعل مماتهم دليلا على تفرّده بالعزّ والبقاء، وكان من كمال قدرته أنْ أوحدهم من العدم، ومن كمال حكمته إماتتهم ليعيدهم بعد التلاشي والعدم ليجازيهم في دار البقاء والدّوام.