والتوكل على الله وحده، وتفويض الأمور كلها إليه والاعتماد عليه في جلب النعماء ودفع الضر والبلاء مقام عظيم من مقامات الدّين الجليلة، وفريضة عظيمة من فرائض الله على عباده يجب إخلاصها لله وحده، وهو من أجمع أنواع العبادة وأهمها لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والطاعات الكثيرة، فإنه إذا اعتمد القلب على الله في الأمور الدينية والدنيوية ثقة به سبحانه بأنه الكفيل الوكيل لا شريك له صح إخلاصه وقويت معاملته مع الله وحسن إسلامه وزاد يقينه وصلحت أحواله كلها.
فالتوكل الأصل لجميع مقامات الدين، ومنزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.
وحقيقة التوكل هو عمل القلب وعبوديته اعتماداً على الله وثقة به والتجاء إليه، ورضا بما يقضيه له، لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه أموره مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها، ففي التوكل جمعٌ بين أصلين: اعتماد القلب على الله وحده لا شريك له، مع فعل الأسباب المأمور بها والقيام بها، دون تعدٍّ إلى فعل سبب غير مأمور به، أو سلوك طريق غير مشروع، وقد جمع بين هذين الأصلين في نصوص كثيرة كقوله تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود: 23] ، وقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"احرص على ما ينفعك واستعن بالله"، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
والتوكل مصاحب للمؤمن الصادق في أموره كلها الدينية والدنيوية؛ فهو مصاحب له في صلاته وصيامه وحجه وبره وغير ذلك من أمور دينه، ومصاحب له في جلبه للرزق وطلبه للمباح وغير ذلك من أمور دنياه، فهو نوعان: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه، وتوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والصلاة والصيام والحج والجهاد والدعوة وغير ذلك.