فاشتغال العبد بمعرفة أسماء الله وصفاته اشتغالٌ بما خُلِق له العبد، وتركُه وتضييعُه إهمالٌ لما خلق له، ولا ينبغي لعبدٍ فضلُ الله عليه عظيمٌ ونعمه عليه متوالية أن يكون جاهلاً بربِّه مُعرَضاً عن معرفته سبحانه.
خامساً: أن أحد أركان الإيمان الستة، بل أفضلها وأجلها وأصلها الإيمان بالله، وليس الإيمان مجرَّد قول العبد: آمنتُ بالله من غير معرفته بربه، بل حقيقة الإيمان أن يعرف ربَّه الذي يؤمن به ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفةً بأسمائه وصفاته ازداد معرفة بربه، وازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، فمن عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل به فهو لما سواه أجهل، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19] ، فمن نسي الله أنساه ذاته ونفسه ومصالحه وأسبابَ فلاحه في معاشه ومعاده.
سادساً: أن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة يستدلُّ بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأنه سبحانه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، ولذلك لا يشرع من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته والحكمة، ولذلك لا يشرع من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه كلها عدل وحكمة، ولهذا فإن العبد إذا تدبر كتاب الله وما تعرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه، وتدبَّر أيامه وأفعاله في أوليائه وأعدائه التي قصَّها على عباده وأشهدهم إياها ليستدلوا بها على أن إلههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة إلا له ويستدلُّوا بها على أنه على كلِّ شيء قدير، وأنه بكلِّ شيء عليم، وأنه شديد العقاب وأنه غفور رحيم، وأنه العزيز الحكيم، وأنه الفعال لما يريد، وأنه الذي وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وأن أفعاله كلها دائرة بين الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة لا يخرج شيء منها عن ذلك، فإذا تدبر العبد ذلك أورثه ولا ريب زيادة في اليقين وقوة في الإيمان وتماماً في التوكل وحسن الإقبال على الله (1) .
(1) انظر:"تفسير ابن سعدي" (1/ 10) ، و"خلاصته" (ص/15) .