وانسجاماً مع نظرية فرض الوقت، بدأ صاحبنا يتحرك في الدائرة الصغيرة من حوله في مجال العمل، فعمل أولا على كسب ثقة من فيها و اطمئنانهم إلى إخلاصه وصدق نياته، بل و تجاوز ذلك إلى كسب محبتهم واحترامهم، ثم إنه راح يعمل: فمن منطلق المحبة والاحترام، وبدعوى الحاجة الواقعية، اشترط عليهم مخاطبته بالعربية، لأنه لا يتقن اللغة الأجنبية التي يتحدثون بها. ثم أضاف إلى ذلك تحبيب العربية إليهم من خلال شواهد من القرآن والحديث وشعر العرب وطرائفهم وحِكَمِهم المشهورة، في كل مناسبة وعند كل حوار.. فوجد العديد منهم في أنفسهم قدرةً لم يكونوا يتوقعونها على الحديث بالعربية، وأحس آخرون بِجَمَالٍ في لغة القرآن لم يألفوه أو يفكروا به في يومٍ من الأيام..
ثم إنه اقترح على واحدٍ من أكثرهم استغراقاً في تدخين السجائر مشاركته في عمليةٍ حسابية بسيطة لمقدار ما أنفق في حياته من مالٍ على تلك العادة، وكان هذا الرجل من أكثرهم فقرا. فلما رأى المسكين الرقم انطلقت الفطرة من أعماقه وكان أول ما تبادَرَ إلى نفسه التساؤل عن إجابته الممكنة إذا سأله الله يوم القيامة - كما قال- لماذا لم يذهب إلى الحج، وتساءل إذا ما كان بإمكانه الادعاء يومها بأنه لم يكن يملك مؤونة ذلك!..
ونظر صاحبنا بعد ذلك في مكان العمل من حوله فرأى خروقاً لانهاية لكل شروط الأمن والسلامة العامة في مواقع مثل هذا العمل، فبدأ يشرح للعمال والمسؤولين خطورة هذه الأوضاع ويقترح عليهم طرقا بسيطة لتغييرها..
إن كل العبرة في القضية هنا إنما تتمثل في القدرة على اكتشاف المعاني والقيم الكبرى الكامنة وراء هذه التصرفات والأفعال، وامتلاك القدرة على رؤية امتداداتها الحساسة وارتباطاتها المباشرة وغير المباشرة بتكوين الشخصية الحضارية المعافاة في صحتها العقلية والجسدية، وهي الشخصية التي يمكن أن نقول أنها مؤهلة، مع الأيام، للمساهمة في عملية التغيير. إن التمكن من إبصار ملامح الفطرة والخير في أعماق الناس، وامتلاك القدرة على إحياء تلك الفطرة وإطلاق ذلك الخير، وإن التأكيد على حفظ مقدرات الأمة وطاقاتها من كل نوع، مما يُعد استثماراً للمستتقبل الآتي، إن كل تلك الأمور تُعد مقدماتٍ أساسية يجب أن تَشغلَ حيزاً تستحقه من تفكير ودراسة أصحاب الاهتمام في هذه الأمة..
وهكذا، ظل يلقي نصيحة هنا وحكمة هناك.. حتى عاد أخيراً من زيارته القصيرة تلك حاملا صورةً تحليليةً دقيقةً لما رآه، تزيدُ مَنْ حَولَهُ معرفةً بأحوالِ شريحة من شرائح الأمة، وبلدٍ من بلادها. وهي صورةٌ تساعدُ مَنْ هو في مثل ذلك الواقع على التأسي والاعتبار، وتساعد من يريد دراسة الواقع على الفهم والإدراك، وتساعد من يريد علاجه على العمل والتخطيط.
وربما يتساءل متسائل بعد ذلك: وما جدوى مثل هذه القضايا الصغيرة الجزئية التي لم ينل حظ الانتباه إليها أصلا غير حفنة لا تمثل شيئا في الأمة، وعلى فترة قصيرة من الزمان؟ وأين هذا من الأعمال والمشاريع السياسية الضخمة ذات التأثير الهائل؟..