الخطبة الأولى
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان،
أمَّا بعدُ:
أيها الأخوة في الله:
لقد طرأ في هذا العصر المتلاطم بالفتن ما يطرأ في كل عصر، وارتكب فيه أرباب الشهوات ما ارتكبه أسلافهم الأوائل من تغيير للحقائق، وتلبيس للمفاهيم، وعبث بالمبادئ، فغيروا ما يريدون تغييره لإشباع غرائزهم، وسموا الأشياء بغير اسمها، ووصفوها بغير صفتها اللائقة بها، فالخمر عندهم شراب روحي، والربا في نظرهم المعوج فائدة مالية، ودعامة اقتصادية، والسياحة في منطقهم المنكوس متعة وترفيه، هكذا قالوا، وبئس ما قالوا.
أحبتي في الله:
لعلي أن أسلط الضوء على قضية كبرى دار حولها الحديث، وكثر فيها الكلام، ألا وهي قضية السياحة، والتي تعني في المفهوم العالمي المعاصر: (الانفتاح المطلق بلا قواعد مرعية، ولا ضوابط شرعية) !. فلا دين يردع، ولا وازع يمنع، يفعل الإنسان ما يشاء، ويصنع ما يريد، فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور.
هذه السياحة في عصر العولمة، ولكننا حينما نعود إلى المعين الصافي، والمنبع الوافي ـ كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلّم ـ فإننا ندرك حقيقة السياحة، ومفهومها في الإسلام، والتي ينبغي أن يدركها الجميع، يقول الله تعالى في وصف عباده المؤمنين: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ) . [سورة التوبة، الآية: 112] .
وللعلماء في بيان معنى السياحة أقوال، وكلها تدل على ارتقاء الإسلام إلى معالي الأمور، وبناء الأمة على مكارم الأخلاق، وجميل الخصال.
فمنهم من فسّر السياحة بالسفر في طلب العلم، فيرتحلون من أجله، ويشدون الرحال في طلبه، من أجل ثني الركب لدى العلماء والتلقي عنهم والاستفادة منهم.
قال عكرمة السائحون:"هم طلبة العلم".
وفسرها بعضهم بالجهاد في سبيل الله تعالى، كما جاء في الحديث عند أبي داود عن أَبِي أُمَامَةَ:"أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ؟! قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم: إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى". (1)
وقال عطاء: السائحون:"هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله" (2)
فهم يسيحون لأجل رافع راية الدين، وإعلاء كلمة المسلمين، وإزالة الذل والهوان عن عباد الله المستضعفين، إنهم يسيحون لبلوغ ذروة سنام الإسلام، فأين هذه من تلك؟ّ لو كانوا يعقلون.
وفسرها بعضهم بالصيام.