عبد الرحمن السديس
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا عباد الله، خيرُ الوصايا الوصيّة بتقوى ربِّ البرايا، فتقواه - سبحانه - أنفع الذخائر للمسلم وأبقاها، وآكدُ المطاب وأقواها، في قفوها منازلُ الحقّ والتوفيق، وفي التزامها الاهتداء إلى الرأي الثاقبِ الوثيق، فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ في كلّ أحوالكم، في حلّكم وارتحالكم، وظعنِكم وانتقالكم، ومَن تنكّب سواء التقوى انقلب خاسئًا وهو حسير، فلبئس المولى ولبئس العشير.
أيّها المسلمون، في دوّامة التنامي الحضاريّ السريع، وفي خضمّ التقدم التقني المذهِل، في أعقاب هذا العصر الوثّاب، وما قابل ذلك من انحسار ملحوظ بل وذريع في الجانب القيَمي والأخلاقيّ والنفسي ، أورَث ذلك كلّه توسّعًا مذمومًا وانفتاحًا محمومًا في كثير من المجالات، واستحكامَ أنماط وعادات في الحياة المعاصرة، وحدوثَ ظواهر مستجدّة لم تكن على قدرِ مِن حسبان سلفِنا الصّالح - رحمهم الله -. ولتلك الموروثاتِ المعاصرة في شريعتنا بمقاصدها وأهدافها ضوابطُها وأحكامها وآدابها.
كما أسفرت هذه المدنيّة الماديّة عن تبرّم فئامٍ من الناس من المكث في بلدانهم والاستقرار في أوطانهم والتطلّع بنَهَم إلى التنقّل بين كثير من الأقطار، وحطّ عصا الترحال لجَوْب عددٍ من الأصقاع والأمصار، كلٌّ بحسب مقصده ومرامه وبغيته ومراده، وما أن يأفل نجمُ العام الدراسي وينبلج صبح الفصل الصيفيّ وتتوسّطَ شمس الإجازة كبدَ السماء وتسفح الوجوهَ بفيحها وأوارها وتشتدَّ لفحات الهواجر ويلتهب رَأْد الضحى [1] حتى ينزع الناس إلى مواطن الأفياء الظليلة النديّة والمياه الشفافة الرقراقة والأجواء المخمليّة النضرة، إجمامًا للنفوس، وتطلّبًا لمتناهي سكونها وهدوئها.
وفي غمرة هذه الأوقاتِ المحتدِمة تتبدّى ظاهرة جدُّ مقلقلة، وتبرز قضيّة على غاية من الأهمية، جديرةٌ بأن تسبر أغوارها، وتجلَّى مزاياها وعوارها. كيف وقد غالى في فهمها أقوامٌ ومعانيها، وشطّوا عن حقيقتها ومراميها؟! وأكبر الظنّ ـ يا رعاكم الله ـ أنها قد خالجت أذهانَكم، ولم تعُد خافيةً على شريفِ علمكم، تلكم ـ دام توفيقكم ـ هي قضيّة السفَر والارتحال والسياحة والانتقال.
معاشر المسلمين، الأصل في السَفر الإباحة، والأسفار قسمان: سفر للمعصية ـ عياذًا بالله ـ وسفر للطاعة، وسفر الطاعة يتضمّن الواجبَ كسفر الحجّ وتحصيل الرزق عند انعدامه ونحو ذلك، ومنه ما هو مستحبّ كزيارة البقاع المقدّسة، ومنه زيارةُ ذوي القربى وصلة الرحم والحبّ في الله، والسفر لطلب العلم وزيارةِ أهله وإغاثة الفقراء والمنكوبين. وأمّا السَفر المباح فما كان للتطبُّب والاتجار والتسبّب، وما كان للسياحة والنزهة وترويح النفوس، وتجرّد عن نيّة الثواب والطاعة، فالأمور بمقاصدها، ولكلّ امرئ ما نوى، والنيّة إذا حسنت تحيل العاداتِ إلى عبادات، وإذا عرفتَ فالزم.