فهرس الكتاب
الصفحة 261 من 477

القلم ليس مرفوعا عن أيام الإجازات

د. علي بن عمر بادحدح*

(الصيف ضيعت اللبن) مثل عربي شهير يضرب لمن ضيع الفرصة، وفوت الغنيمة، وترك المجال الرحب الواسع، ولم يكن له من ذكاء عقله ومن شرف نفسه ومن قوة عمله ما يجعله محصلا لمكاسب دنياه ومدخرا لمآثر أخراه.

مثل يضرب بامرأة تزوجت رجلا شهما كريما، يغدق عليها طعاما وشرابا ولبنا سائغا للشاربين مع حسن معاملة وإجلال وإكرام، لكنها لم تقابل ذلك باعترافها بالنعمة وشكرها لها وانتفاعها منها، وحرصها عليها وقابلت ذلك بإعراض وتضييع، وبجحود وإنكار، فكانت العاقبة أن طلقها ثم تزوجها غيره، لم تجد عنده يدا مبسوطة بالكرم، ولا وجها مشرقا بالسرور، ولا معاملة محفوفة بالإعزاز والإكرام، فتندمت وتحسرت على ما فات عليها وما ضاع منها، لكنها لم تنحو باللائمة على غيرها، وإنما خاطبت نفسها تذكرها تفريطها، وتبين لها سوء تدبيرها، فقالت: (الصيف ضيعت اللبن) ، ومضى مثلا لكل من أضاع الفرصة وفرط في الغنيمة.

وها نحن اليوم نبدأ موسم الصيف، وما أدراك ما موسم الصيف! ملايين الملايين من الأوقات التي تحسب في خانة الفراغات، والتي تصنف فيما يعرف بالعطلة، وهي: (اسم في لفظه ومعناه، واشتقاقه اللغوي مأخوذ من العطالة والعطل، وهو الخلو من الزينة في أصل اللغة، وهو هنا خلو عن العمل الجاد والانتفاع المثمر) ، والاستغلال الهادف للطاقات المختلفة المتنوعة كلها من وقت ممتد، وعقل مفكر، وقوة وصحة وعافية وفرص وأبواب من الخير مشرعة، ثم قد ينتهي الزمان وينقضي الصيف بأيامه وأسابيعه وأشهره وسعته التي ليس فيها كثير من العمل المطلوب المكلف به، وحينئذ تعود مرة أخرى التسويفات..إذا جاء الصيف سأفعل، وإذا كانت الإجازة سأنجز، وإذا تخليت عن بعض الأعباء والمهمات سأفرغ لغيرها، ويمضي الإنسان بذلك دون أن يدرك أن ما يضيعه إنما هو جزء حقيقي مهم من عمره وحياته، وأنه يبدد من رصيده، ويفني من كنوزه ما قد يكون أقل القليل منه موضع ندامة وحسرة شديدة وأكيدة وعظيمة في وقت لا ينفع فيه الندم.

ولعلنا نذكر أمرين مهمين قبل حديثنا عن الصيف:

الأمر الأول: في المنهج الإسلامي الفراغ فرصة للعمل.

ويخطئ من يظن غير ذلك، ويعتقد أن الفراغ فرصة للنوم والكسل، ولعلنا نكتفي بالآية التي نتلوها كثيرا ونسمعها في صلواتنا كثيرا: {فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8) } [الشرح: 7 - 8] .

وقبل أن أذكر ما ذكره المفسرون من الصحابة والتابعين وغيرهم ندرك جميعا بمعرفتنا للغة العرب المعنى العام: إذا فرغت وانتهيت وصارت عندك فسحة من الوقت وشيء من الراحة فأي شيء تصنع؟ فانصب، وكلنا يعلم أن النصب هو التعب والمقصود به الجد والعمل الذي يجدد مرة أخرى الإنجاز ويحقق الخير بإذنه - سبحانه وتعالى -.

لنستمع - أيها الإخوة - إلى القلوب المؤمنة والأفهام المسلمة والنفوس الحية والهمم العالية كيف فسرت؟ وكيف فقهت هذه الآيات من كتاب الله - سبحانه وتعالى -..

عن ابن مسعود - رضي الله عنه: (إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام