خواطر في السياحة .. وفرض الوقت
راشد الحكيم
ليس كالسياحة في أرض الله الواسعة مجالاً لزيادة المعرفة بأحوال الأمة، و الاطلاع على أخلاقها و عاداتها، و رؤية موقعها من ميزان الحضارة و الرقي بمقاييسه الأصيلة، و ليس كمثلها مدخلا ً لممارسة عملية البلاغ المبين بين الناس، و لنقل أمانة العلم و التجربة إلى الآخرين، كل ذلك بشرط أن يتوافر أمر واحد: ذلك هو الفهم.
يسافر الكثيرون من أبناء الأمة و يعودون إلى أوطانهم دونما حصاد من خير أو فكر أو علم أو تجربة، كأنما العقل و البصر و البصيرة و سائر الحواس، وكأنما العلم والخبرة والوعي، وكأنما الأفكار والمبادئ والقيم، وكأنما هموم الأمة وقضاياها الكبرى، كأنما كل ذلك من لوازم أماكن الإقامة فقط، يجمعها البعض في صندوق، و يتركها قبل مغادرته أمانة في بيته، لا يحملها معه لأنها ليست من لوازم السفر و لا من أدوات الترحال..
في حين يحملها البعض ممن امتلك الفهم، فلا تجده في سفره إلا داعياً إلى خير، آمراً بمعروف، ناهياً عن منكر، ناقلاً لخبرة، حاصلاً على تجربة، مراقباً لظاهرة، و قائماً على الدوام بفرض الوقت.
و فرض الوقت في تعريفنا يتمثل في انطلاق الإنسان من عُمقِ أفكاره و مبادئه و قيمه في كل ظرف لممارسة عمل يمثل أقصى طاقته في خدمة أمته و قضيته، مستصحباً في حركته للحكمة و البصيرة و لخصوصية ذلك الظرف من حيث حدوده و احتياجاته، و بحيث ينتج عن ذلك العمل خيرٌ يصب في المجرى الكبير للتغيير، على أن يكون ذلك الخير - مهما كان صغيرا - في تلك اللحظة و في ذلك الظرف غاية الوسع و أقصى المستطاع.
و من هؤلاء أخ كريم كان في زيارةِ عملٍ قصيرة لبلدٍ مشرقيٍ من بلاد الإسلام، نٌحلل من خلال بعض المشاهد والملاحظات التي نَقلَها حالةً نموذجيةً لِمُمارسةٍ متقدمةٍ لفرض الوقت، لا يُمكن إلا أن تنتج عن فهمٍ متقدمٍ أصبح من الواجب أن يُشاع ويشيع بين الناس.
قال صاحبنا: لم يكن صعباً أن يكتشف المرء حالة الكبت و القهر التي يعيشها الناس.. فحتى في المساجد التي كانت تفتح في أوقات الصلاة، كانت الحفنة من المصلين الكهول تتحاشى الابتسام فضلا عن السلام أو الحديث مع غريبٍ يتفحص البناء و يتأمل الوجوه، و كان ملاحَظاً غيابُ المودة و الطيبة و سلامة الفطرة أو حتى مجرد الشعور بوحدة الانتماء، لقد كان الاستبداد السياسي باختصار ظاهراً للعيان على خطٍ طويل من ساحة الواقع، يمتد من بوابة المطار إلى مآقي العيون المخطوفة في كل مكان..
و في مثل هذا الظرف فإن فرض الوقت يقتضي أن ينظر الإنسان على الأقل مِنْ حولِهِ متفكرا و متأملا حتى يرى كل أبعاد المشهد الاجتماعي بِغَرض فهمه أولا، وصولاً بعد ذلك إلى التعامل معه بحكمةٍ و اقتدار.
ركب صاحبنا سيارة أجرة، فإذا التزاحمُ و التسابق والتدافع الذي لا تُحترم معه حقوق الآخرين، ولا يُعبأ معه بضوابط السلامة، ولا يُعار الانتباه لنظام المرور، إذا بذلك كله يشكل العرف السائد الذي يجعل الرحلة القصيرة مناسَبةً للتوتر والقلق وشد الأعصاب..