فهرس الكتاب
الصفحة 39 من 477

إن للاستبداد السياسي حدوداً لا يملك تجاوزها بحال، ومواقعَ لا يُمكن أن يصل إليها على الإطلاق. وإن ذلك إنما هو من حكمة الله وسنته في الخلق، تحقيقاً لِعدْلِهِ المُطلق على الدوام، وهو عدلٌ يتركُ باستمرار منافذَ لحركة الإنسان على هذه الأرض، مهما أوحت الظواهر بغير ذلك، ومهما ظن البعض من بني البشر في أنفسهم جبروتاً زائفا أو قوةً موهومةً على كتم أنفاس عباد الله. لكن من كمال الحكمة الإلهية وروعتها أن جَعَلَ امتلاك مثل تلك القدرة الفذة على اكتشاف هذه المنافذ وتغيير الواقع من خلالها - بإرادة الله - منوطاً بحركةِ العقل البشري وتحرره وانطلاقه وسعة آفاقه وقدرته العجيبة على الإبداع والابتكار، ولم يجعله منوطا بالخوارق والمعجزات.

إن الاستفزاز والتحفُّز والحضور الفكري والعقلي والثقافي الذي تتطلبه مثل هذه الأحوال للتعامل مع الواقع، وصولاً إلى تغييره، إنما تُمثل قمة الرقي في قصة التجربة البشرية ومسيرتها لإعمار هذه الأرض وفق شروط الحق والعدل والخير والجمال. وإن العقل الوحيد المؤهل لهذه المرتبة إنما هو العقل الراشد المؤمن المتوكل، الذي ينطلق في حركته من مقاصد الدين وثوابته، ومن قراءةٍ واعية لتجارب التاريخ وعطاء التراث من جهة، ولخصوصية الحاضر من جهة ثانية، مستصحباً فقه الأولويات، حاملا راية الاجتهاد و التجديد، و باذلا الوسع في نهاية المقام لاستخدام لغة العصر وأدواته وآلياته...

إن الاستبداد السياسي لا يُجبر الناس أبداً على الحديث بلغة أجنبية (حتى في البيوت) ، أو على التدخين بشراهة وابتذال، أو على التفنن في مخالفة القوانين، أو على رمي القمامة في الشوارع.. وإذا كنا نُقِرُّ بالآثار السلبية للخيار الحضاري العام الذي تختاره السلطة السياسية، وبقوة آلتها الإعلامية والدعائية في نشر القيم الغريبة والتعتيم على القيم الأصيلة.. وإذا كنا نُقِرُّ بالأثر النفسي السلبي العام الذي يتركه الكبت والقهر في الشعوب، داعيا إياها للانسحاب تدريجيا من الحياة في روحها الأصيلة، والغرق في متاهات الضياع والفوضى واللامبالاة الكاملة.. إذا كنا نقر بكل ذلك، فإننا نرى في هذا الأمر بذاته مدعاةً للتحدي والاستفزاز الحضاري لدى الشرائح الأكثر وعيا ومعاصرةً وإيماناً من أبناء الأمة، وهو تَحَدٍّ يتمُ التعامل معه عبر مُتواليةٍ من الإبداع والابتكار للأقنية والوسائل التي تُمكِّنُ من العمل في أوساط الأمة لمعالجة مثل تلك الظواهر الشاذة في هذه المرحلة. دون أن تتصف تلك الوسائل بالضرورة بالتعقيد المألوف، فربما تكون بعض الترتيبات العفوية الفردية أحيانا وسيلة العمل المثلى، والمهم في جميع الأحوال أن تُستصحبَ خصوصيةُ الظرف ويتحقق فرض الوقت، تمهيدا لمراحلَ تالية أكثر فُسحةً وحرية وانفتاحا.. وإن نجاح الشرائح صاحبة الاهتمام في مثل ذلك التحدي إنما يُعبِّر عن مشروعية الوجود والدور أولا، قبل أن يكون دليل الوعي والمعاصرة والفهم لديها..

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام