أيها المصطافون، أيها المسافرون، يا مَن عزمتم على جَوْب الأمصار والأقطار وركوب الأجواء والبحار واقتحام الفيافي والقفار وتحدي الشدائد والأخطار، تلبّثوا مليًّا، وتريّثوا فيما أنتم بسبيله، وليكن في نواياكم أسوتكم ونبيكم، حيث ارتحل من مكّة إلى المدينة، حاملاً النورَ والضياء والهدى والإصلاح، وكذلك صحابته الكرامُ في أثره، حيث كانوا لنشر رسالتهم الربانية المشرقة أجلَّ السفراء، وسار في ركابهم جِلّة العلماء، فشقّوا الأرضَ شقًّا، وذرعوها سفرًا وتسيارًا، طلبًا للعلم والإفادة والصلاح والسعادة، وتصعّدًا في مراقي الطّهر والنّبل، كلّ ذلك على كثرة المخاوف وشُحّ الموارد وخشونة المراكب وقلّة المؤانس، فهلاّ اعتبرنا بهم وشكرنا الباري جلّ في علاه على نعمِه السوابغ.
وفي زمننا هذا المتضخِّم بالدّعة والرفاه وجدب النفوس من الآمال الغوالي أصبَح السفر والتنقّل ظاهرةً جديرة بالاهتمام والتذكير بالآداب الشرعيّة والضوابط المرعية، كيف وبعض الناس يمتطون هذه الأيام متونَ الطائرات وأمثلَ المركبات، أإلى صلة الأرحام والقرابات؟ كلا، أإلى طلب العلم والأخذ من العلماء؟ كلا، أإلى الأعمالِ الخيريّة والدعويّة؟ كلا، أإلى مواطنِ الطهرِ والفضيلة؟ بكل الحُرقة: لا، وكلاّ، بل إلى مستنقعاتِ الآثام والشرور ومباءات المعاصي والفجور، لمبارزة الملك الديان، بالذنوب والعصيان، حيث أملى لهم الشيطان أنّ هاتيك المنتجعات والشطآن هي أدواء علاجِ الملل من حرّ الصيف اللافح وأجواءُ الترفيه والسياحةِ والاصطياف.
أيُّ دين وقيمٍ عند من يسافرون إلى مباءات الأوبئة الفتاّكة أجاركم الله؟! التي أسعرتها معطَيَات الحضارة السافرة، وألهبتها الشبكات الحديثة المذهلة، وأذكاها الجفاف الروحي واليباب الفكري والتّرف الماديّ الساحق، فكان هذا الفهم الخاطئ لمعنى السّفر والسياحة التي آضت عند بعض المنهزمين صناعةً للتفلّت من القيم والتنصّل من المبادئ والثوابت، في الوقت الذي تحولت فيه السياحة المعاصرة إلى استراتيجيات بنّاءة تخدِم المثُل والمبادئ، وتبنى على الفضائل العليا لتحقيق المصالحِ العظمى، مما كان سببًا في خَلط الأوراق لدى كثيرين بين السياحة البريئة والترويح المشروع وبين ضدّها، وبضدّها تتميز الأشياء.
حتى صُرفت فئام من الأمّة عن تأريخها وأصالتها وتراثها ولغتها، فأضحَوا مُزَعًا تائهين أسرَى الليلية والتقليد والتبعيّة والتقاليد المستوردَة النشاز، حين هبّت أعاصير الشهوات والملذّات، وثارت لوثات الخلل الفكريّ والأخلاقي والانحرافات على جملةٍ من السلوكيات في كثير من المجتمعات فتركتها في دياجير الظلمات.
وبنحو ذلك بعضُ الفتياتِ والأسر ممن حرِموا متانةَ الدين وقوّة الأخلاق وعمق الأصالة والأعراق، حيث هتك بعضهن ـ هداهن الله ـ حجابَ الطهر والاحتشام، ومما زاد الطينّ بِلة والدّاء علّة اصطحابُ البنين والبنات من المراهقين والمراهقات الذين سرعانَ ما تنغرز في أفئدتهم تلك الأوضاع الفاضحة والمشاهد المتهتِّكة.