ومن عظيم نعمة الله على العبد أن يوفِّقه لسلوك هذا النهج القويم القائم على لزوم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعيداً عن انحرافات أهل الباطل وتخرُّصات أهل الضلال، بل مَضَوْا بحمد الله على جادة واحدة ولم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلُّهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنَّة كلمةً واحدة من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلاً، ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها أمراً واحداً، وأجروها على سَنَنٍ واحد، ولسان حال قائلهم يقول:"من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم" (1) ، وهذا الاتفاق الذي مضى عليه أهل السنة عبر التاريخ المديد يُعدُّ من أبين الدلائل على صحَّة منهجهم واستقامة مسلكهم.
ولهذا يقول أبو المظفر السمعاني رحمه الله:"ومما يدل على أن أهل الحديث على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولها إلى آخرها، قديمها وحديثها؛ وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونقلهم لا ترى فيه اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلَّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد جرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا، قال الله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82] ، وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103] ، وأما إذا نظرت إلى أهل البدع رأيتهم متفرقين شيعاً وأحزاباً لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في"
(1) هذا الكلام أورده البخاري في"صحيحه"عن الزهري رحمه الله؛ وفي ذلك قصَّة ذكرها الحافظ ابن حجر في"فتح الباري" (13/ 504) .