كلِّ شكور، بل هو الشكور على الحقيقة، فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل منا لعمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، ويشكر عبده بقوله بأن يثني عليه بين ملائكته وفي ملئه الأعلى، ويلقي له الشكر بين عباده، ويشكر بفعله، فإذا ترك له شيئاً أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً رده عليه أضعافاً مضاعفة، وهو الذي وفقه للترك والبذل، وشكره على هذا وذاك، ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها في مرضاته أعاضهم عنها أن ملكهم الدنيا وفتحها عليهم، ولما احتمل يوسف الصديق عليه السلام ضيق السجن شكر له ذلك بأن مكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقتها أعداؤه شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيراً خضراً أقر أرواحهم فيها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث، فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجله وأبهاه، ولما بذل رسلُهُ أعراضهم فيه لأعدائهم فنالوا منهم وسبُّوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته، وجعل لهم أطيب الثناء في سمواته وبين خلقه، فأخلصهم بخالصة ذكرى الدار.
ومن شُكره سبحانه: أنه يجازي عدوَّه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا، ويخفف عنه يوم القيامة فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان، وهو من أبغض خلقه إليه.
ومن شُكره: أنه غفر للمرأة البغي بسقيها كلباً قد جهده العطش حتى أكل الثرى، وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق المسلمين.
فهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه لنفسه، والمخلوق إنما [يشكر] من أحسن إليه، وأبلغ من ذلك أنه سبحانه هو الذي أعطى العبد ما يحسن به إلى نفسه، وشكره على قليله بالأضعاف المضاعفة التي لا نسبة لإحسان العبد إليها، فهو المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر، فمن أحق باسم"الشكور"منه سبحانه؟!.
وتأمل قوله سبحانه: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً(147) لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء: 147] ؛ كيف تجد في ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده بغير جرم، كما يأبى إضاعة سعيهم باطلاً، فالشكور لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء.