والتقصير الواقع من الخلق يقتضي العقوبات المتنوعة، ولكن عفو الله ومغفرته تدفع هذه الموجبات والعقوبات (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) [فاطر: 45] ، وهذا من كمال عفوه، فلولا كمال عفوه وحلمه ما ترك على ظهر الأرض من دابة، ومثلها قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل: 61] .
ومن هذا الباب ما ورد في"الصحيحين" (1) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس أحدٌ- أو ليس شيء- أصبرَ على أذى سَمِعَه من الله، إنهم ليدعون له ولداً، وإنه ليعافيهم ويرزقهم".
وعفوه تعالى نوعان:
النوع الأول: عفوه العام عن جميع المجرمين من الكفار وغيرهم، بدفع العقوبات المنعقدة أسبابها، والمقتضية لقطع النّعم عنهم، فهم يؤذونه بالسَّبِّ والشِّرك وغيرها من أصناف المخالفات، وهو يعافيهم ويرزقهم ويدرُّ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، ويبسط لهم الدنيا، ويعطيهم من نعيمها ومنافعها ويمهلهم ولا يهملهم بعفوه وحلمه سبحانه.
والنوع الثاني: عفوه الخاص، ومغفرته الخاصة للتائبين والمستغفرين والداعين والعابدين، والمصابين بالمصائب المحتسبين، فكلّ من تاب إليه توبة نصوحاً- وهي الخالصة لوجه الله العامة الشاملة التي لا يصحبها تردُّد ولا إصرار- فإن الله يغفر له من أي ذنب كان، من كفر وفسوق وعصيان، وكلّها داخلة في قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53] .
(1) "صحيح البخاري" (رقم: 6099) ، و"صحيح مسلم" (رقم: 2804) .