إن كانت سوريا فعلاً وراء الاغتيال فقد خابت جميع رهاناتها على إزاحة الحريري من الوجود، وأثبتت التجربة أن الجريمة كانت ضرباً من الغباء السياسي والاستخباراتي لم تحسب عواقبه بالشكل الصحيح، وسوريا أول من يطالب العالم بالنظر إلى النتائج لتبرئة ساحتها، حيث إنها كلها لا تصب في مصلحتها، فقد أرغمت على الخروج من لبنان، وفقدت الشيء الكثير من هيمنتها السياسية، والعسكرية، والاستخبارية، والاقتصادية، وألقت به وبقيادة الأغلبية السياسية فيه إلى الأحضان الأمريكية، مما يضع لبنان على شفير الهاوية، لأن سوريا لن تتحمل أن يصبح لبنان لقمةً سائغةً للأمريكان، ولن تتقبل الواقع الجديد الذي يشهد بأنها كانت السبب في ذلك، وبالتالي ستفعل المستحيل للحيلولة دون تقديمه لهم على طبق من فضة.
فإن كان لا بد من ذلك فستقدمه جمرة محترقة، أو رماداً كي لا تنعم به أمريكا، ولا الصهاينة من ورائهم، يعزز هذا التصور ما نشرته بعض الصحف والمجلات عن سعي المخابرات السورية إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، مما سيؤدي حتماً إلى حمام دم، ومجزرة طائفية رهيبة.
أما إن كان هناك متهمون آخرون في جريمة الاغتيال فلا بد أن يتصدر الموساد الإسرائيلي اللائحة، وقد كان كاتب هذه السطور أول من وجه أصابع الاتهام لهم يوم أن اهتزت بيروت بدوي الانفجار الذي أودى به، فمما لا شك فيه أنهم المستفيد الأول والأكبر من الحدث، ويملكون الدوافع والإمكانات، ومما لا شك فيه كذلك أنهم يدركون أن العالم بأسره وعلى رأسه المعارضة اللبنانية ستتهم سوريا (بغض النظر عما إذا كان المتهمون يعتقدون ذلك فعلاً) التي كانت في وضع سياسي لا يحسد عليه، وقد تحقق لإسرائيل جملة من المكاسب، منها:
فصل المسار اللبناني عن المسار السوري في مسألة التطبيع والاستفراد بلبنان.
زعزعة الاقتصاد اللبناني، الذي كانت جميع المؤشرات توحي بأنه قد تعافى، وذلك من خلال رؤوس الأموال الخارجية المستثمرة فيه، ومواسم السياحة التي يعتمد على حركتها أكثر من ثلثي الشعب، فقد فاق عدد السياح في صيف 2005 المليون سائح، ولا أظنه يخفى على أحد مصلحة إسرائيل في ضرب الجانبين.
الدفع بالطائفية السياسية إلى التوتر والانسداد، ومن ثم الزج بحزب الله وأعوانه في حرب طائفية ضروس تأكل الأخضر واليابس، وتؤمِّن حدودها الشمالية، وتقلب الموازين المحلية والإقليمية والدولية رأساً على عقب؛ مما قد يستدعي دخول قوات دولية لفض النزاع، وحفظ الأمن، وبالتالي تحاصر سوريا بالقوات الدولية في العراق ولبنان، وتوضع أمام خيارين أحلاهما مر: إما التطبيع مع إسرائيل، وإما مواجهة العزلة الدولية والإقليمية، والعقوبات الاقتصادية الخانقة.
* دولياً:
تُعتبر إيران الطرف الغائب الحاضر على المسرح اللبناني، ويخطئ من يقلل من حجم الدور الذي تلعبه في صناعة المشهد السياسي، بل وحتى الأمني، دورها هذا قد يتخذ شكلاً وحجماً مختلفاً، من خلال رسم ما ستؤول إليه المفاوضات مع وكالة الطاقة الدولية، وما قد تنفذه أميركا من تهديدات أو لا تنفذه.