ولا ريبَ أنَّ الزهدَ ينمو في شهرِ الصومِ؛ لأنَّ الزهد في حقيقته كما قال سفيان الثوري:"قِصَرُ الأمل؛ ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء!" [17] وقد فسّر أحمد الزهد كذلك في بعض ما نُقل عنه بقوله:"الزهد قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس!" [18] وهذا ظاهرٌ في حالِ الصائمين. و رحم الله النوويَّ حيث قال في شرح حديث ابن عمر - رضي الله عنهما: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) :"قالوا في شرح هذا الحديث: معناه لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذْها وطناً. ولا تحدّث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلّق بها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله" [19] .
فالزهدُ إذنْ من أعظمِ ثمارِ الصومِ؛ لأن الصائمَ يتحرَّر فيه من الشهوات والتعلُّقِ بالدنيا؛ لاسيما والزهدُ لا يختصُّ بالمال، كما قال ابنُ رجب:"قال أبو سليمان الداراني: اختلفوا علينا في الزهدِ بالعراق. فمنهم من قال: الزهدُ في تركِ لقاء الناس، ومنهم مَن قال: في تركِ الشهوات، ومِنهم مَن قال: في تركِ الشبع، وكلامُهم قريبٌ بعضه من بعض. قال: وأنا أذهب إلى أنّ الزهد في تركِ ما يشغلك عن الله - عز وجل -! وهذا الذي قاله أبو سليمان حسنٌ، وهو يجمع معانيَ الزهد وأقسامَه وأنواعَه" [20] .
[10] الاستقامة
ولا يخفى أنّ الصوم من أعظمِ أسبابِ الاستقامة؛ لما يتضمّنه من السعي الدائب إلى الطاعات والمراقبة الدائمة من اقترافِ السيِّئات، قال النووي:"قال العلماء: معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى". [21] فالصومُ يبعث على يقظة الفِكرةِ وذهابِ الغفلةِ؛ لأنّ العبد يعتريه الضعف في إيمانه والنقص في عمله والفتور في عزمه!
وقد بُشِّر أهل الاستقامة بولاية الله لهم ودفع الخوف والحزن عنهم وسكنى الجنات ونيل ما يريدون من الشهوات، كما قال - عز وجل: (إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعُون نُزُلاً مِنْ غَفورٍ رحيم) . [22]
وقال ابن رجب - رحمه الله -؛ مصداقاً لذلك:"الطبقة الثانية من الصائمين من يصوم في الدنيا عما سوى الله؛ فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما عوى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرةَ فيترك زينةَ الدنيا؛ فهذا عيدُ فِطرِهِ يوم لقاء ربِّهِ وفرحِهِ برؤيتِهِ:"
أهلُ الخصوصِ من الصُوَّامِ صومُهم *** صونُ اللسانِ من البُهتانِ والكذبِ!
والعارفون وأهلُ الأُنْسِ صومُهُم *** صونُ القلوبِ عن الأغيارِ والحُجُبِ!" [23] "
[1] البقرة 183-185.
[2] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/279. جمعية إحياء التراث الإسلامي. ط5. 1420 هـ.
[3] المطففين 26.
[4] تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور 2/156-157. الدار التونسية للنشر.
[5] في ظلال القرآن لسيد قطب 2/168. دار الشروق القاهرة. الطبعة الشرعية الثلاثون. 1422 هـ.