إبّان السفر تتجلّى عظمة الخالق البارئ - سبحانه -، فتخشعُ له القلوب أمام بديع السموات والأرض، أمامَ بديع خلقِ الطبيعة الخلاّبة، وتسبّحه الروح لمفاتنها الأخّاذة الجذّابة، أراضٍ شاسعةٌ أنبتت أجملَ زهر بأطيب ريح، رياضٌ أُنُف وحدائق غُلب، نخيل باسقات وواحات مُونقات، رواسٍ شمّاء وأرض مَدحيّة وسماء وأنهار تجري بأعذب ماء {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [ [ (60) (61) سورة النمل] وسبحانَ الله، كم يغلب على كثير من الناس أن يمرّوا بهذه المناظر وكأنهم إزاءَها دونَ نواظر: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [ (46) سورة الحج] .
يقول الإمام أبو الوفاء ابن عقيل - رحمه الله:"فنعوذ بالله من عيونٍ شاخصة غير بصيرة، وقلوب ناظرةٍ غير خبيرة". ومن الحثّ اللّطيف على السفر النافع المفيد قولُ الثعالبي - رحمه الله:"من فضائل السفر أنّ صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله - تعالى - ويدعوه شكراً على نعمه".
إن العُلا حدَّثتني وهي صادقة *** فيما تحدِّث أنّ العِزَّ في النُقَل
لا يُصلِح النفسَ وهي مدبرة *** إلا التنقلُ من حال إلى حال
وقال آخر:
إني رأيت وقوف الماء يفسده *** إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ
والأُسْد لولا فراق الغاب ما افترست *** والسهم لولا فراق القوس لم يصبِ
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة *** لملَّها الناس من عُجم ومن عربِ
وهل بلغ الصحابة الأجلاء والسلف النبلاء والأئمة الفقهاء ما بلغوا مِن ذُرى القمَم وقصَب السبق بين الأمم إلا بالرحلة في طلب الحديث وتحصيل العلوم والمعارف؟ ومن المعروف أن الكُحْل نوع من الأحجار كالثّرى يرمى على الطرق، فإذا تغرّب جُعِل بين الجفن والحدَق.
أيها المسلمون: يا مَن عزمتم على جَوْب الأمصار والأقطار وركوب الأجواء والبحار واقتحام الفيافي والقفار وتحدي الشدائد والأخطار، تلبّثوا مليًّا، وتريّثوا فيما أنتم بسبيله، وليكن في نواياكم أسوتكم بنبيكم، حيث ارتحل من مكّة إلى المدينة، حاملاً النورَ والضياء والهدى والإصلاح، وكذلك صحابته الكرامُ في أثره، حيث كانوا لنشر رسالتهم الربانية المشرقة أجلَّ السفراء، وسار في ركابهم كوكبة من العلماء، فشقّوا الأرضَ شقًّا، وذرعوها سفراً وتسياراً؛ طلباً للعلم والإفادة والصلاح والسعادة، وتصعّداً في مراقي الطّهر والنّبل، كلّ ذلك على كثرة المخاوف وشُحّ الموارد وخشونة المراكب وقلّة المؤانس، فهلاّ اعتبرنا بهم وشكرنا الباري جلّ في علاه على نعمِه السوابغ.