وأما سفر الطلب: فهي كثيرة ومن أمثلته: سفر الهجرة، وذلك كسفر الأنبياء والصالحين، والسفر للجهاد، وكان ذلك أكثر سفر النبي والصحابة الكرام، ومنها السفر للحج والعمرة، ومنها السفر لطلب العلم، ومنها السفر للأماكن الفاضلة كالمساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال على سبيل القربة والتعبد والاعتكاف إلا إليها، ومنها السفر للتجارة والكسب الحلال وتحصيل الرزق عند انعدامه، ومنها السفر لزيارة ذوي القربى وصلة الرحم، ومنها السفر للتطبب والعلاج، ومنها السفر للنزهة وترويح النفوس، ومنها السفر للاعتبار كما في قول الله - تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [ (9) سورة الروم] ، ومنها السفر من أجل الدعوة إلى الله ونشر العلم الصحيح، والترغيب في دين الله - تعالى -، ولكن لهذا السفر ضوابطه، فإياك ثم إياك أن يكون السفر إلى الخارج لغرض الدعوة غطاءً للتمويه على الأهل وتخلصاً من تبعة المساءلة، فكم ذهب أناس بحجة الدعوة فعادوا وقد تغيّرت طباعهم ورقّ إيمانهم، وما خفي كان أعظم، فدخلوا في دهاليز الزواج بنية الطلاق. وما لم يكن لدى الداعية علم يتسلح به وينفع به، وتقىً يحول بينه وبين المحرّم فإن بقاءه في بلده أسلم لدينه وعرضه، ولن يعدم في بلاده وسائل يخدم من خلالها دينه وأمته ومجتمعه، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [ (14-15) سورة القيامة)] .
فهذه جملة من الأسفار الواجبة والمندوبة والمباحة، وأما غير ذلك من الأسفار فلا يليق بعاقل أن يضيع فيه وقته، أو يتعب فيه بدنه أو ينفق فيه ماله: {وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [ (220) سورة البقرة] (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) ).
أيها المسلمون: إنّ السفر الذي احتُسب فيه الأجر والثواب وحُرِص فيه على الطاعة لهو بحقّ روضة للعقول، وبلوغ للأنس المأمول، وهو مَجْلاة للسّأم والكلال وبُعدٌ عن الرّتابة والنمطيّة والإملال، وفضاءٌ رحب للاعتبار والادّكار {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [ (20) سورة العنكبوت] .