ففي الحديثِ الثابتِ عنه - عليه الصلاة والسلام - يقول: (( أنا برئ من مسلم يبيتُ بين ظهرا ني المشركين، لا تترآى نارُهِما ) ) [1] .
وهو كما ترى أخي المسلم كلامٌ جادٌ لا يقبلُ التأويل، ووعيدٌ أكيدٌ لا يقبلُ الميوعة، يجسم النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلالهِ هذه القضيةَ الساخنة، وإن أبى ذلك عُشَّاقُ السفرِ والسياحةِ، وأشدُ من ذلك قولُه - عليه الصلاة والسلام: (( من جَامعَ المشركَ، أو سكنَ معه فهو مثلُه ) ) [2] .
ومعنى الحديث من اجتمعَ مع المشركِ في بلده، أو سكنَ معه في بيتِه، فهو مثلُه في الشركِ، والكفر والإلحاد.
فرحماك يا إلهي رحماك يا الله!.
وأمَّا القرآنُ الكريم ففيه ما تتفطرُ له الأكباد، وترتعدُ له الفرائص، وتصطكُ له الأسنان، فحين تخلفَ نفرٌ من المسلمين عن الهجرةِ إلى المدينة، وآثروا البقاءَ في الأرضِ التي ولدوا فيها، والبلادِ التي نشأوا في جنباتِها، حيث تخلف أولئك وفضَّلوا البقاءَ بين ظهرا ني المشركين، إذا بالقرآنِ الكريم ينزلُ متوعداً ومتهدداً أولئك المتخلفين بنبرةٍ حادَّة، ولغةٍ جادة لا يفهمُها إلا العقلاءُ فقط.: (( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) ) (النساء: 97) .
فلم يُستثنْ من أولئك إلا المستضعفين من الرجالِ والنساءِ، والولدان، أرأيتَ أيها المسافر هذا الوعيدَ الشديد لأولئكَ المتخلفينَ في مكة، مع أنهم بالتأكيد لم يكونوا سياحاً، أو طُلاَّبَ مُتعة، ولكنَّهم كانوا هم أهلَ البلاد ورثوها كابراً من كابر، ونشاءُوا فيها منذ نعومةِ أظفارهم، ولينِ أكفهم.
أمَّا النبيُ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهُ الطيبين، فقد امتثلوا أمرَ ربهِم فهاجروا من مكة بكلِّ طواعيةٍ واختيار، مع أنَّها أحبُ البلادِ إلى قلوبِهم، وأقربُها إلى نفوسِهم، هاجروا من مكة، يومَ كانتْ مكةُ دارَ كفرٍ وإلحادٍ، فالمسألةُ مسألةُ عقيدة، والقضيةُ قضيةُ جنةٍ ونار، وهما أمران لا يستخفُ بها إلا المغفلون، إذ أنَّ حبَّ أرضٍ ما، أو حبَّ السفرِ إلى هنا أو هناك، لا ينبغي أن يُقدمَ على ما يُحبُه اللهُ ورسولُه مهما كانتْ الأسبابُ والمبررات.
(( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) ) (الأحزاب: 36) .