والعبد كلما عظمت طاعته وزاد قربه وتقربه لربه عظم نصيبه من استحقاق هذه الرحمة، قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155] ، وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور: 56] ، وقال تعالى: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) [الأعراف: 56] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والله عز وجل أرحم بعباده منهم بعضهم ببعض مهما علا قدر الرحمة والتراحم بينهم، ففي"الصحيحين" (1) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:"قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأةٌ مِن السبي تبتغي (2) إذا وجدت صبياً في السبي أخذتهُ فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها"."
فأرحم ما يكون من الخلق بالخلق رحمة الأم بولدها، فهي رحمةٌ لا يساويها شيء من رحمة الناس، والله جل وعلا أرحم بعباده منها بولدها، بل لو جمعت رحماتِ الراحمين كلِّهم فليست بشيءٍ عند رحمة أرحم الراحمين.
وينبغي أن يعلم هنا الرحمة المضافة إلى الله نوعان: رحمة عامة، وهي التي قرنها بالعلم في قوله: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) [غافر: 7] ، فكل شيء وصله علمُه وهو واصل لكل شيء فإن رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن هذه الرحمة به، وهي الرحمة التي تشمل جميع المخلوقات حتى الكفَّار، وهي رحمة جسدية بدنية
(1) "صحيح البخاري" (رقم: 5999) ، و"صحيح مسلم" (رقم: 2754) - واللفظ له-.
(2) قال النووي: "هكذا هو في جميع نسخ"صحيح مسلم": "تبتغي"من الابتغاء وهو الطلب"."شرح صحيح مسلم" (17/ 70) .
وفي"صحيح البخاري":"تسقي"وفي بعض رواياته"تسعى"أي: من السّعي. قال القرطبي: "لا خفاء بحسن رواية"تسعى"ووضوحها، ولكن لرواية "تبتغي"وجهاً، وهو تطلب ولدها، وحذف المفعول للعلم به، فلا يغلَّط الراوي مع هذا التوجيه". انظر:"فتح الباري" (10/ 430) .