فهرس الكتاب
الصفحة 308 من 335

والرب سبحانه - مع كمال غناه عن الخلق كلهم وعن طاعتهم وعبادتهم - يكرم عبد ويستر ويستحيي من هتكه وفضيحته وإحلال العقوبة به، ويقيض له من أسباب الستر، ويوفقه للندم والتوبة، ويعفو عنه ويغفر له، وهذا من لطفه سبحانه بخلقه ورحمته بعبيده، قال الله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 104] ، وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء: 110] ، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى: 25] .

ولهذا فإنه سبحانه يكره من عبده إذا وقع في معصية أن يذيعها ويشهرها، بل يدعوه إلى أن يتوب إلى الله منها بينه وبينه، وستر الله مسبول عليه، لا أن يظهرها لأحد من الناس، ومن أبغض الناس إليه من بات عاصياً والله يستره، ثم يصبح يكشف ستر الله عليه.

وقد جاءت السنة بالنهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، ففي"الصحيحين" (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه".

قال ابن بطال رحمه الله:"في الجهر بالمعصية استخفافٌ بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضربٌ من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تُذل أهلها، ومن إقامة الحدِّ عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حدا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفُوته جميع ذلك" (2) اهـ.

(1) البخاري (رقم: 6069) ، ومسلم (رقم: 2990) .

(2) انظر:"فتح الباري" (10/ 487) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام