إن معرفة الله ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسماها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وجرى إليها المتسابقون، وغلى نحوها تمتد الأعناق، وإليها تتجه القلوب الصحيحة بالأشواق، وبها يتحقق للعبد طيب الحياة"فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه، ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده والإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأُنس بقربه، ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كلَّه، ولو تعوَّض عنها بما تعوض من الدنيا، بل ليست الدنيا بأجمعها عوضاً عن هذه الحياة، فمِن كلِّ شيءٍ يفوت عوضٌ، وإذا فاته الله لم يُعوِّض عنه شيءٌ البتة" (1) .
والعجب من حال أكثر الناس"كيف ينقضي الزمان، وينفد العمر، والقلب محجوبٌ ما شمَّ لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياتُه عجزاً، وموتُه كمداً، ومعادُه حسرةً وأسفاً" (2) ، فيخرج من الحياة وما ذاق أطيب ما فيها، ويغادر الدنيا وهو محروم من أحسن ملاذها؛ فإن اللذة التامة والفرح والسرور وطيب العيش والنعيم إنما هو في معرفة الله وتوحيده، والأنس به والشوق إلى لقائه، وأنكدُ العيش عيشُ قلبٍ مشتت، وفؤاد ممزق ليس له قصدٌ صحيح يبغيه ولا مسار واضح يتَّجه فيه، تشعبت به الطرق، وتكاثرت أمامه السبل، وفي كل طريق كبوة، وفي كل سبيل عثرة، حيرانَ يهيم في الأرض لا يهتدي سبيلاً، ولو تنقل في هذه الدروب ما تنقل لن يحصل لقلبه قرار، ولا يسكن ولا يطمئن ولا تقر عينُه حتى يطمئنَّ إلى إلهه وربِّه وسيِّده ومولاه، الذي ليس له من دونه وليٌّ ولا شفيع، ولا غنى له عنه طرفة عين، والأمر كما قيل:
(1) "الجواب الكافي"لابن القيِّم (ص/132 - 133) .
(2) "طريق الهجرتين"لابن القيِّم (ص/385) .