قلت: فهذه سيرة الخلفاء الراشدين المهديين والذين أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباعها تُبين أن الواجب في التعامل مع المرتدين بعد توبتهم أنهم لا يولون أي ولاية وخاصة ما كان منها مهما ويُمنعون من ركوب الخيل وحمل السلاح إلا بعد أن تظهر توبتهم وتحسن سيرتهم ويأمنهم الناس.
فكل من كان من أهل الردة وخاصة من كان من المحاربين لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولدينه فإنه لابد أن تظهر حسن توبتهم وسيرتهم حتى يطمئن إليه المسلمون، ولا يصح أن يواون ولاية على المسلمين إلا بعد مدة من توبتهم.
قال القرطبي رحمه الله: قوله تعالى {إلا الذين تابوا} استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم، ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل قد تبت حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول.
فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا لشرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه. اهـ [1]
وأما عن المدة التي يُترك التائب من المعصية فيها حتى تتبين توبته وتظهر فقد قال ابن تيمية رحمه الله: فإن عمل صالحا سنة من الزمان ولم ينقض التوبة فإنه يُقبل منه ذلك ويُجالَس ويُكلم.
وأما إذا تاب ولم تمض عليه سنة، فللعلماء فيه قولان مشهوران، منهم من يقول: في الحال يُجالس وتقبل شهادته، ومنهم من يقول: لابد من مُضي سنة كما فعل عمر بن الخطاب بصبيغ بن عسل.
وهذه من مسائل الاجتهاد؛ فمن رأى أن تقبل توبة هذا التائب ويُجالس في الحال قبل اختباره فقد أخذ بقول سائغ، ومن رأى أنه يُؤخر مدة حتى يعمل صالحا ويظهر
(1) تفسير القرطبي، ج 2/ 192. ط دار الحديث.