فهرس الكتاب
الصفحة 313 من 477

وقد بيَّنَت الآياتُ الكريمة الغايةَ الكبرى من الصوم، في قولِ اللهِ - عز وجل: (يا أيّها الذين آمنوا كُتَِب عليكم الصِّيامُ كما كُتِب على الذين من قبلِكم لعلَّكم) ؛"إنها التقوى! فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة؛ طاعةً لله، وإيثاراً لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقامَ التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه؛ فهي غايةٌ تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداةٌ من أدواتها وطريقٌ موصلٌ إليها؛ ومن ثَمَّ يرفعها السياقُ أمام عيونِهم هدفاً وَضِيئاً يتَّجِهُون إليه عن طريقِ الصِّيام (لعلَّكم تتقون) !" [5]

وقال القرطبي:" (تتقون) قيل: معناهُ هنا: تضعفون؛ فإنه كلما قلَّ الأكلُ ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوةُ قلَّت المعاصي؛ وهذا وجهٌ مجازيٌّ حسنٌ، وقيل: لتتقوا المعاصي، وقيل: هو على العموم؛ لأنَّ الصيام كما قال - عليه السلام: (الصيامُ جُنَّةٌ) و (وِجاء) ، وسبب تقوى؛ لأنه يُميتُ الشهوات". [6]

وقد بيَّن المفسِّرون أنَّ تحصيلَ التقوى من الصيام ظاهرةٌ؛"لما فيه من زكاةِ النفوسِ وطهارتها وتنقيتها من الأخلاطِ الرديئة والأخلاق الرذيلة" [7] ؛ ذلك"أنَّ الصوم يُورث التقوى؛ لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوِّن لذّاتِ الدنيا ورياستها؛ وذلك لأنّ الصوم يكسر شهوةَ البطن والفرج، وإنما يسعى الناسُ لهذين... فمَنْ أكثرَ الصومَ هان عليه أمرُ هذين وخفَّتْ عليه مؤنتهما؛ فكان ذلك رادعاً له عن ارتكابِ المحارمِ والفواحش، مهوِّناً عليه أمرَ الرياسة في الدنيا، وذلك جامعٌ لأسبابِ التقوى"! [8]

وللهِ درُّ ابنِ القيم حيث قال:"للصوم تأثيرٌ عجيبٌ في حفظِ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويُعِيدُ إليها ما استلبَتْه منها أيدي الشهوات؛ فهو من أكبر العونِ على التقوى، كما قال - تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين مِن قبلكم لعلكم تتقون) . [9] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: (الصوم جُنَّة) ، وأمر مَن اشتدّت عليه شهوةُ النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وِجاءَ هذه الشهوة". [10]

[5] استحضار سماحة الشريعة:

وقد راعت الشريعةُ التدرُّجَ في تشريعِ الصومِ؛ تخفيفاً على المسلمين، كما قال ابنُ القيِّم - رحمه الله:"كان للصومِ رُتَبٌ ثلاثٌ: إحداها: إيجابُهُ بوصفِ التخيير، والثانية: تحتُّمُه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعمَ حرم عليه الطعامُ والشرابُ إلى الليلة القابلة، فنُسِخ ذلك بالرتبة الثالثة، وهي التي استقرَّ عليها الشرعُ إلى يوم القيامة". [11]

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام