فهرس الكتاب
الصفحة 224 من 477

إن المرء الجاد الخائف من ربه، وولي نعمته، ليس لديه متسع من الوقت أو الجهد لينفقه فيما يعود عليه بالوبال. لقد حرص كثير من الناس على تضخيم الترويح على النفس والبدن، حتى ظنوا بسبب ذلك أنهم مسجونون في بيوتهم وبلدانهم! إستصغروا ما كانوا يُكبرون من قبل، واستنزروا ما كانوا يستغفرون! أقفرت منازلهم من الأ ُنس، وألِفوا السياحة على مفهومهم القاصر، والجلوس في المنتديات حال الإغتراب، حتى أصبح المرء منهم في داره حاضرا ً كالغائب، مقيما ً كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه ما لا يعلم من حال القريب منه.

قبل الإجازات، يَعقدون الجلسات غير المباركة عن معاقد عزمهم في شد الرحال إلى مجاري الأنهار وشواطيء البحار في بلاد الكفار أو بلاد تشبهها، يفرون من الحر اللافح إلى البرد القارس، وما علموا أن الكل من فيح جهنم ونَفَسها الذي جعله الله لها في الشتاء والصيف.

رحلات عابثة تفتقرإلى الهدف المحمود والنفع المنشود، أدنى سوءها الإسراف والتبذير، ناهيكم عما يشاهد هنالك من محرمات ومخازي لا يُدرى كيف يبيح المرء لنفسه أن يراها، وماذا سيجيب الله عن قوله:"قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم."

الجُل من السياح نهارهم في دُجنة وليلهم جَهْوَري، ألذ ما عند بعضهم سمر العشاق أو شَغل المشغولين بالفراغ. عبادتهم ندر وغوايتهم غمر. يأكلون الأرطال ويشربون الأسطال، ويسهرون الليل وإن طال، حتى يصير الصبح ليلا ً والليل صبحا ً، فيختل الناموس الذي خلق الليل والنهار من أجله. فلا يُرخي الليل سدوله إلا وقد سَحب اللهو ذيوله. وتمشت البلادة في عظام المرء حتى تترقى إلى هامه وتسْلم العقل، فيُخلع ثوب الوقار ويُلاطف بعبث مشين في سَفْسَف أو باطن من الأمر.

ومن ثم، تُعد تلك السجايا من السياحة الجاذبة. وكم يقال حينها:

هل لساهر في مثل هذا من نُزْح *** أو هل لليله من صبح

هيهات ثم هيهات، فتلك ليال طُف أجنحتها وظل أصحابها، وكيف يُرجى تقطيع ليال وافية الذوائب ممتدة الأطناب بين المشارق والمغارب؟"وهو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا". ولا بِدْع حينئذ إذا عكست آمال هؤلاء وخابت أعمالهم فلم يرجعوا من سياحتهم إلا بنفاد المال في الدنيا وسوء المغبة في الأخرى.

إننا أيها المسلمون نحتاج حقيقة ً إلى مصارحة مع أنفسنا وإلى استحضار عقولٍ وقلوبٍ ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. إننا لنساءل رواد السياحة بأوضح صور الصراحة، فنقول لهم: أفيدونا، يا هداكم الله: ما هي إيجابيات السياحة؟ وما هي سلبياتها؟ والجواب، أن ظننا فيهم، أن يقولوا:"إيجابياتها تكمن في التعرف على البلدان ومعرفة حضارات الأقوام ومشاهدة المناظر الخلابة والآثار العامرة.."والرابع، يقال على إستحياء:"قتل الأوقات ومجاراة الناس!"

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام