إن محور حديثنا أيها الناس ونقطة الإرتكاز فيما سنطرحه هو ما يسمى في الكلام"السياحة". نعم، السياحة، وما تطرف منها لفظا ً ومعنى. تلكم الكلمة، عباد الله، تكاد تتواطئ أسهام الأغرار من الناس على أنها عبارة دالة بذاتها على معان منها: الترويح عن النفس، أو الإصطياف، أو الخروج عن القيود الشرعية أو العرفية، أو الإرتقاء والتمدن واتساع الأفق الثقافي، أو بعبارة أخرى تلم الجميع: 'العولمة الحرة'. وأين كان، هذا المعنى أو ذاك، فإنه لن يخرجنا هذا كله عن القول بصدق: إن هذه المعاني والمفاهيم للسياحة كلها مغلوطة، وليست من السياحة في ورد ولا صَدر ولا هي من بابته. ولأجل أن نؤكد على ما نقول بالدليل القاطع فإن هناك نصوصا ً من كتاب ربنا وسنة نبينا، صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف الصالح، كلها تدل على مفهوم للسياحة مغاير لما تعارف عليه جمهرة الناس.
يقول الله، جل وعلا:"التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون،"الآية. قال بن مسعود وبن عباس وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم، وغيرهم:"إن السائحين هم الصائمون."ومثل ذلك قوله تعالى:"عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا ً خيرا ً منكن، مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ً."وقد قالت عائشة رضي الله عنها:"سياحة هذه الأمة: الصيام."وقال بعض أهل العلم، كزيد بن أسلم وابنه:"السائحون هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم."و لذلك قال بعض السلف:"من لم يكن رُحلة، لن يكون رُحالة."أي من لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ والسياحة في الأخذ عنهم، سيبعد تأهله ليُرحل إليه.
وأقول أيها المسلمون: إن هذا القول كان أيام الخلافة الإسلامية وكون البلدان كالرقعة الواحدة، والله المستعان!
وثم إطلاق آخر لمعنى السياحة وهو السير للمطلوب الشرعي والبحث عنه، عبادة ً لله وقربى لديه، كالحج وزيارة المساجد الثلاثة، أو الغزو في سبيل الله أو نحو ذلك. فقد ثبت عند الترمذي في جامعه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا قَفَل من غزوة، أو حج أو عمرة، كان مما يقول في دعائه:"آيبون تائبون عابدون سائحون لربنا حامدون،"الحديث. وإطلاق آخر للسياحة بمعنى عبادة الله في أرضه للمضطهدين في دينهم والمشردين عن أوطانهم ، كما ثبت في صحيح البخاري من قصة هجرة أبي بكر، رضي الله عنه، إلى الحبشة حيث لقيه بن الدَّغِنة فقال:"أين تريد يا أبا بكر؟"فقال أبو بكر:"أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي."فقال بن الدغنة:"إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج،"الحديث.
ومن هذا المنطلق، دُونت المقولة المشهورة عن شيخ الإسلام، بن تيمية، رحمه الله، إبان إضطهاده وامتحانه:"ما يفعل أعدائي بي؟ إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وتشريدي سياحة."ولا يُعقل أيها المسلمون أن يسيح العالم المجاهد، المتقي، لأجل أن يلهو أو يعبث!