وفي ذلك اليوم ينكشف للناس الغطاء، وتذهبُ أوهام من تعلَّقت قلوبهم بالدنيا، وظنوا أنهم باقون فيها، وأن ملكهم فيها سيبقى، وأنهم إلى الله لا يرجعون، فيوقنون حينئذ بأن الملك لله الواحد القهار، وأنه سبحانه الوارث لديارهم وأموالهم، ولا ينفعهم حينئذ تقطُّع قلوبهم حسرات وامتلاؤُها بالندم والأسف.
وكان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعد، فإنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تُتركوا سُدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر هذا اليوم وخافه، وباع نافداً بباق، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم الباقين حتى تُردون إلى خير الوارثين؟!."
ثم إنكم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع غير ممهد ولا مُوسد، قد فارق الأحباب وباشر التراب، وواجه الحساب، مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم.
فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه، ونزول الموت بكم، ثم جعل طرف ردائه على وجهه، فبكى وأبكى من حوله" (1) ."
وقد حثَّ الله عباده المؤمنين على النفقة في سبيله من المال الذي من عليهم به، وجعلهم مستخلفين فيه، مُذكراً لهم بأنه الوارث سبحانه، قال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [الحديد: 7] ، إلى أن قال: (وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الحديد: 10] .
(1) رواه ابن أبي حاتم، كما في"تفسير ابن كثير" (5/ 494) .