قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعها، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوي عنه يمنة ولا يسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به، فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر.فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه، ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق، والمداهنة إنما تكون في باطل قوى لا تمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟
(ق) : قوله: { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } . أكثر المفسرين على أنه على حذف مضاف، أي: أتجعلون شكر رزقكم، أي: ما أعطاكم الله من شيء من المطر ومن إنزال القرآن، أي تجعلون شكر هذه النعمة العظيمة أن تكذبوا بها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ذكرها في المطر، فأنه تشمل المطر وغيره.
وقيل: إنه ليس في الآية حذف، والمعنى: تجعلون شكركم تكذيبا، وقال: إن الشكر رزق، وهذا هو الصحيح، بل هو أكبر الأرزاق، قال الشاعر:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة …عليَّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله …وإن طالت الأيام واتصل العمر
فالنعمة تحتاج إلى شكر، ثم إذا شكرتها، فهي نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، وإن شكرت في الثانية، فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثالث، وهكذا أبدا، قال تعالى { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (النحل: 18) .