إذا سجى الليل قاموه وأعينهم ***من خشية الله مثل الجائد الهطل
هم الرجال فلا يلهيهمُ لعب *** عن الصلاة، ولا أكذوبة الكسل
وصدق الله القائل: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} .
معشر الدعاة يا من تتصدرون المجالس، وترتقون المنابر، وتتصدون للوعظ والإرشاد، وتقصدون هداية العباد، ألا ترون أن هناك فرقاً كبيراً، وبوناً عظيماً بين هذه الصفة صفة الصفوة والحقيقة اللازمة لها، فأنت - أيها الداعية - ينبغي أن تكون أحيا الناس قلباً، وأصفاهم نفساً، وأخلصهم قصداً، وأسرعهم عَبْرة، وأكثرهم خشية، وأصدقهم توكلاً، فهل ذلك حقاً هو ما تتصف به؟ ألا تعترف بأن الحال ليس كما ينبغي، وأن من الدعاة من ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، وعيونهم جامدة، أفلست بحاجة ماسة إلى مكاشفة صريحة، ومراجعة دائمة، وخذ هذا الوصف من سيد من سادات الدعاة والعلماء، الحسن البصري يقول في وصف الصفوة:"حسنت ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم - تبارك و تعالى -، واستقادتهم للحق فيما أحبوا أو كرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين لرضا الخالق، شغلوا الألسن بالذكر، وبذلوا أنفسهم لله حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم" [رسائل مبكية 137، 138] ،
وأزيدك من كلامه مزيداً من الصفات حيث يقول:"قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة، أما الليل: فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم: ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء، بررة أتقياء، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ولكن خالطهم ذكر الله أمر عظيم" [رسائل مبكية ص60، 61] .
أين أنتم معاشر الدعاة من هذه الصفات، وتلك المقامات? وكثيرون قد استكثروا من المباحات، وشغلوا بالأبناء والزوجات، وألفوا الكسل، وعافوا العمل، حتى ركنت لذلك نفوسهم، وقنعت به همومهم، وذلك نتيجة حتمية لمن ترك تزكية النفس بالطاعات، وطهارة القلب بالقربات، ومن المعلوم"إن في النفوس ركوناً إلى اللذيذ والهين، ونفوراً عن المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق، ورضها وسسها على المكروه الأحسن، حتى تألف جلائل الأمور وتطمح معاليها، وحتى تنفر عن كل دنية وتربأ كل صغيرة، علّمها التحليق تكره الإسفاف، عرّفها العز تنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة تحقر اللذات الحسية الصغيرة" [الرقائق ص 51] .