فهرس الكتاب
الصفحة 182 من 477

بل إن أحدث أنواع الأدب ظهوراً وهو أدب الخيال العلمي يندرج هو الآخر تحت أدب الرحلات؛ لأنه يقوم في معظمه على فكرة الرحلة عبر الزمان الماضي والآتى، أو عبر المكان: الفضاء أو أعماق البحر أو باطن الأرض.

وعدد كبير من الروايات والقصص يمكن أن يندرج بصورة ما تحت مسمى أدب الرحلات.. فهذا المسمى الواسع كما نرى قادر على استيعاب أعمال ابن بطوطة وماركو بولو وتشارلز داروين وأندريه جيد وأرنست همنجواي ونجيب محفوظ وغيرهم.. رغم التباين الكبير فيما بينهم؛ لأن الفكرة التي تجمعهم هي فكرة الرحلة نفسها، الرحلة الزمانية أو المكانية أو النفسية.

ولكن الملاحظ كما يرى الدكتور أحمد أبو زيد- أن أدب الرحلات قد تراجع عما كان عليه في العصور السابقة وحتى أوائل القرن العشرين، وذلك على الرغم من أن العصر الحالي يعتبر بحق عصر الرحلة والسفر؛ نظراً للإمكانيات والتسهيلات الهائلة التي حدثت بحيث أصبح السفر جزءاً من الحياة العادية للرجل العادي والسياحة بمفهومها الحالي أصبحت بعكس ما كانت عليه الأوضاع في الماضي.. فالرحالة الأوائل كانوا أدباء ومؤرخين وجغرافيين ومكتشفين؛ لذلك جاءت كتاباتهم سجلاً وافياٌ ودقيقاً وعميقاً عن انطباعاتهم عن حياة الشعوب التي زاروها، ومظاهر سلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم ونظمهم الاجتماعية والسياسية إلخ.. فكتابات هؤلاء تكشف عن درجة عالية من القدرة على الملاحظة الدقيقة والتحليل، كما نلاحظ في كتابات ابن فضلان مثلاً، أو كتاب البيروني"تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".. وكذلك كتابات الرحالة الأوروبيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر وإن لم تخل كتابات هؤلاء من تحيز لثقافتهم الأوروبية، فضلاً عن إغراق بعضها في التخيلات والمبالغات والأحكام غير الدقيقة والافتراءات..

ولعل المسئولية الأساسية عن تخلف أدب الرحلات حالياً ترجع إلى حرمان المسافر من تجربة الرحلة الحقيقية بكل ما فيها من عمق وإثارة واكتشاف.. فقد أصبح السفر سهلاً ومتاحاً لكل الناس.. وفقد المسافر خصوصيته فيما يسمى بالرحلات الجماعية المنظمة سلفاً.. مما جعل"السائح"الحديث يحل محل"الرحالة"القديم.. فالرحالة يعنى التميز والفردية والأصالة والعمق.. والسائح هو المتابع السطحي الذي ترك أمور رحلته بيد غيره.. يرى بعيون من نظم الرحلة .. ويفهم ويصدر الأحكام المتعجلة النابعة من الآخرين وليس من ذاته.. فهذا التحول من الرحالة إلى السائح يعد أحد أهم أسباب تراجع أدب الرحلات حالياً.. يضاف إلى ذلك تقدم وسائل الاتصال خصوصاً التليفزيون والإنترنت بحيث يظن مستخدم هذه الوسائل أنه يعرف كل شيء عن العالم، وأنه زار كل مكان في العالم وهو جالس في بيته لم يتحرك من مكانه أمام شاشة التليفزيون أو الكمبيوتر .. مما يفقد الإنسان بكارة الدهشة واختلاجة القلب بالمعرفة القائمة على تجربة الاتصال الحي المباشر والتي كان يشعر بها الرحالة القدامى، وفقدناها الآن فيما فقدنا من مشاعر وأحاسيس كجزء من الثمن الباهظ الذي ندفعه من إنسانيتنا مقابل الرفاهية والحضارة المزعومة.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام