فهرس الكتاب
الصفحة 154 من 477

فأخذ النفس بالجد دائما قد يؤدي إلى الملل والسأم، ومن ثم ترك كل العمل، وقد نقل عن علي ـ رضي الله عنه ـ قوله: (أجمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان) .

وكذلك الزيادة في اللهو والترويح، والانغماس في الملذات ـ ولو كانت مباحة ـ سبب لموت القلب، والإقبال على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والخيار في ذلك الموازنة بين حقوق الآخرة، وحظوظ النفس من الدنيا.

وللناس في الترويح والسعة مذاهب يتبعونها، وطرائق يسلكونها: من اتخاذ المزارع والضيعات، والخروج إلى المتنزهات والاستراحات، في أنواع من اللهو المباح وغير المباح.

ومن أشهر أنواع الترويح والتنفيس عن النفس البشرية: السفر من بلده إلى بلاد أخرى، إما لأنها مسقط رأسه، وبلد آبائه وأجداده، وإما لميزات أخرى دعته إليها، وجعلته يقدمها على غيرها.وغالب البشر يُقَدِّمون السفر كنوع من أنواع التنفيس على غيره من أنواع الترفيه والترويح، ويجعلونه تاجها ورأسها، ولا بدَّ منه في كل عام عند أكثر الناس ممن يطيقونه ويجدون نفقاته.

والسفر إما أن يكون سفر طاعة، وإما أن يكون سفر معصية، والمباح منه يؤول بالنية والعمل إلى أحدهما ولا بد.

ومن سفر الطاعة: السفر للجهاد أو الرباط، أو طلب العلم، أو صلة الرحم، أو زيارة الإخوان في الله تعالى.

ومن سفر المعصية: السفر للسرقة، أو قطع الطريق، أو الزنا، أو القمار، أو الخمر، أو غير ذلك من أنواع المحرمات.

والسفر للترويح والترفيه هو من المباحات التي تؤول إلى الطاعة أو إلى المعصية.

فإن سافر إلى بلد يقام فيها دين الله تعالى، ويحكم فيه بين أهلها بشريعته، وأحكام الإسلام فيها ظاهرة، والدين فيها عزيز، مع قيامه في نفسه وأهله ورفقته بما أمر الله تعالى من فعل المأمورات، واجتناب المحظورات، فهذا سفر مباح لا ضير على العبد فيه، ولا فيما أنفقه من نفقات عليه.

فإن اقترن بذلك نية صالحة من قصد إدخال السرور على أهله وولده، وجَعْلهم تحت علمه وبصره، وحفظهم من الفراغ ورفقة السوء في بلده، أو أراد بسفره نشاط نفسه وأهله على طاعة الله تعالى، والتفكر في عجائب خلقه وقدرته؛ كان سفره سفر طاعة، وله من الأجر فيه على حسب نيته، ونفقته فيه مخلوفة عليه إن شاء الله تعالى.

وأما إن كانت وجهة سفره إلى بلاد كافرة، الكفر فيها عزيز، والإسلام فيها ضعيف، وحرمات الله تعالى تنتهك فيها جهارا نهارا ولا نكير، فهذا سفر معصية لا خير فيه، وإثمه أكبر من نفعه. وهكذا إن سافر إلى بلاد تتسمى بالإسلام وليس الإسلام فيها ظاهرا، بل الظاهر فيها الكفر والفسوق والعصيان.ولم يرخص العلماء في السفر إليها إلا لضرورة لا بد منها، أو حاجة ملحة، بشرط أن يكون عند هذا المسافر ومن معه من رفقته علم يدفع به الشبهات، وأن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.

فإن خشي على نفسه من الزيغ والضلال، أو كان ضعيفا أمام الشهوات، فالسلامة لا يعدلها شيء، ولعل ضرورته أو حاجته تندفع بغير هذا السفر، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ومن ترك شيئا لله تعالى عوضه الله تعالى خيرا منه.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام