ولئلاّ يظن الظان أنه باستكثاره من الأعمال الصالحة في نفسه يحصل له النجاة، وإن أهمل من يجب عليه نصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولذلك جاء النص على التواصي بالحق مع أنه من الأعمال الصالحة.
والتواصي بالحق يشمل أن يوصي الإنسان نفسه بالحق، ويأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر، وكذلك يشمل أن يكون ذلك مع غيره ممن يعايشهم، سواء كانت له ولاية عليهم أم لم تكن له ولاية عليهم، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حق أهل الإيمان بعضهم على بعض.
والوصف الرابع الذي تحصل به النجاة قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، يعني أنواع الصبر كلها، والتي هي الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله تعالى، وهذا الأمر في هذه الآية {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} داخل في الذي قبله، فإن التواصي بالصبر من التواصي بالحق، وخصه بالذكر لأهميته وعظم أثره في تحقيق النجاة والسلامة من الخسار، وإن كان داخلاً مندرجاً فيما تقدم من العمل الصالح والتواصي بالحق، وبقدر ما يتصف الإنسان بما ذكر من الأوصاف في هذه السورة يحصل له بقدر ذلك من النجاة، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر، وإذا علم العبد المؤمن ذلك حرص أن يستكثر من هذه الصفات وأن يزداد منها، لأن بها يحصل له الفوز والسلامة من الخسارة المذكورة في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} وهذه الآية واضحة الدلالة على ما تقدم من وجوب تعلم هذه المسائل، ووجه ذلك: أنها نجاة للنفس من الخسارة، وقد بين الله سبحانه وتعالى طريق ذلك، وهو ما تضمنه الاستثناء في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . فدل ذلك على وجوب الصبر، وعلى وجوب تعلّم هذه المسائل الأربع التي يتحقق فيها للمرء السلامة في الدنيا والآخرة.
قوله - رحمه الله - (قال الشافعى - رحمه الله -"لو ما أنزل الله حجةً على خلقه إلا هذه السورة، لكفتْهم".)
الشافعي: هو أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس، هاشمي قرشي، ولد في غزة سنة 150 هـ، وتوفي في مصر سنة 204 هـ.
قوله (رحمه الله) تأدب فمن عادة أهل السنة والإنصاف والعلم أنهم يترحمون على أهل العلم والسنة.
قوله ("لو ما أنزل الله حجةً على خلقه إلا هذه السورة، لكفتْهم") وفي لفظ {لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم} , ونُقل هذا القول بألفاظ أخرى لا تخرج عن المعنى. وهذه المقولة التي حكاها المصنف ـ رحمه الله ـ عن الإمام الشافعي هي مقولة مشتهرة عن الإمام الشافعي، أثبتها عنه أصحابه وغيرهم، ومن الكتب التي أثبتت ذلك (( تفسير البقاعي ) )ـ رحمه الله ـ في تناسب الآيات والسور، فقد أثبت هذه القولة للشافعي، وممن أثبت هذه القولة أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في (( مجموع الفتاوى ) )، وقال: (وقد صدق فيما قال) ـ يعني الإمام الشافعي رحمه الله ـ في قولته آنفة الذكر.