فهرس الكتاب
الصفحة 57 من 93

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَانَ:175] .

وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ ءآمَنْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التَّوْبَةُ:18] .

وَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءآمَنا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ} [الْعَنْكَبُوتُ:10] .

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: (( إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَأَنْ تَذُّمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، إِنَّ رِزْقَ اللهِ لاَ يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَلاَ يَرُدُّهُ كَرَاهِيةُ كَارِهٍ ) ).

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ ) )رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ) .

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ.

الثَّانِيَةُ:

تَفْسِيرُ آيَةِ (( بَرَاءةٌ ) ).

الثَّالِثَةُ:

تَفْسِيرُ آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ.

الرَّابِعَةُ:

أَنَّ الْيَقِينَ يَضْعُفُ وَيَقْوَى.

الْخَامِسَةُ:

عَلاَمَةُ ضَعْفِهِ وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الثَّلاَثُ.

السَّادِسَةُ:

أَنَّ إِخْلاَصَ الْخَوْفِ للهِ مِنَ الْفَرَائِضِ.

السَّابِعَةُ:

ذِكْرُ ثَوَابِ مَنْ فَعَلَهُ.

الثَّامِنَةُ:

ذِكْرُ عِقَابِ مَنْ تَرَكَهُ.

مُنَاسَبَةُ البابِ لِمَا قبلَهُ:

إنَّ المُؤَلِّفَ رَحِمَهُ اللهُ أعْقَبَ بابَ المحبَّةِ ببابِ الخوفِ؛ لأنَّ العبادةَ تَرْتَكِزُ على شيئيْنِ:

المحبَّةُ، والخوفُ.

فَبِالْمَحبَّةِ يكونُ امتثالُ الأمرِ، وبالخوفِ يكونُ اجتنابُ النهيِ، وإنْ كانَ تاركُ المعصيَةِ يَطْلُبُ الوصولَ إلى اللهِ، ولكنَّ هذا مِنْ لازِمِ تَرْكِ المعصيَةِ، وليسَ هوَ الأساسَ، فلوْ سَأَلْتَ منْ لا يَزْنِي، لماذا؟

لقالَ: خوفًا من اللهِ، ولوْ سَأَلْتَ الذي يُصَلِّي، لقالَ: طمَعًا في ثوابِ اللهِ وَمَحَبَّةً لهُ. وكلٌّ منهما مُلازمٌ للآخَرِ، فالخائفُ والمطيعُ يُرِيدَانِ النجاةَ منْ عذابِ اللهِ، والوصولَ إلى رحْمَتِهِ.

وهل الأفضلُ للإنسانِ أنْ يُغَلِّبَ جانبَ الخوفِ أوْ يُغَلِّبَ جانبَ الرجاءِ؟

اخْتُلِفَ في ذلكَ: فقيلَ:

ينبغي أنْ يُغَلِّبَ جانبَ الخوفِ؛ لِيَحْمِلَهُ ذلكَ على اجتنابِ المعصيَةِ ثمَّ فِعْلِ الطاعةِ.

وقيلَ:

يُغَلِّبُ جانبَ الرجاءِ؛

ليكونَ متفائِلاً، والرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يُعْجِبُهُ الفألُ.

وقيلَ:

في فعلِ الطاعةِ يُغلِّبُ جانبَ الرجاءِ،

فالَّذِي مَنَّ عليهِ بفعلِ هذهِ الطاعةِ سَيَمُنُّ عليهِ بالقَبُولِ؛ ولهذا قالَ بعضُ السَّلفِ: إذا وفَّقَكَ اللهُ للدُّعاءِ فانْتَظِر الإجابةَ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وفي فعلِ المعصيَةِ يُغَلِّبُ جانبَ الخوفِ؛ لأجْلِ أنْ يمْنَعَهُ منهَا، ثمَّ إذا خافَ من العقوبةِ تابَ.

وهذا أقربُ شيءٍ، ولكنْ ليسَ بذاكَ القربِ الكاملِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أيْ: يخافونَ أنْ لا يَقْبَلَ منهُمْ، لكنْ قدْ يُقالُ بأنَّ هذهِ الآيَةَ يُعَارِضُها أحاديثُ أُخْرَى، كقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الحديثِ القُدْسِيِّ عنْ ربِّهِ: (( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي ) ).

وقيلَ:

في حالِ المرضِ يُغَلِّبُ جانبَ الرجاءِ،

وفي حالِ الصحَّةِ يُغَلِّبُ جانبَ الخوفِ.

فهذهِ أربعةُ أقوالٍ.

وقالَ الإمامُ أحمدُ: (ينبغي أنْ يكونَ خوفُهُ ورَجَاؤُهُ واحدًا، فأيُّهما غَلَبَ هلكَ صاحبُهُ) أيْ: يجعلُهُما كجَنَاحَي الطائرِ، والجناحانِ للطائرِ إذا لمْ يكُونا متساوييْنِ سَقَطَ.

وخوفُ اللهِ تعالى درجاتٌ، فمن الناسِ مَنْ يغْلُو في خوفِهِ، ومنْهُمْ منْ يُفْرِطُ، ومنهمْ مَنْ يعْتَدِلُ في خوفِهِ.

والخوفُ العَدْلُ هوَ الذي يَرُدُّ عنْ محارمِ اللهِ فقطْ، وإنْ زِدْتَ على هذا فإنَّهُ يُوصِلُكَ إلى اليأسِ منْ رَوْحِ اللهِ، ومن الناسِ مَنْ يُفْرِطُ في خوفِهِ بحيثُ لا يرْدَعُهُ عمَّا نهى اللهُ عنه.

والخوفُ ينقسم إلى قسمين:

الأوَّلُ:

خوفُ العبادةِ والتذَلُّلِ والتعظيمِ والخضوعِ،

وهُوَ ما يُسمَّى بخوْفِ السِّرِّ، وهذا لا يصلحُ إلاَّ للهِ سبحانَهُ، فمَنْ أشركَ فيهِ معَ اللهِ غيرَهُ فهوَ مشركٌ شركًا أكبرَ، وذلكَ مثلُ: مَنْ يخافُ من الأصنامِ أو الأمواتِ، أوْ مَنْ يزْعُمُونَهُمْ أولياءَ ويعتقدونَ نفعَهُمْ وضَرَّهمْ، كما يفعلُهُ بعضُ عُبَّادِ القبورِ؛ يخافُ مِنْ صاحبِ القبرِ أكثرَ مِمَّا يخافُ اللهَ.

(وفي جعل المصنف -رحمه الله- خوف السر اسماً لخوف العبادة والتذلل منازعة بل هو قسيم له، كما يعلم من(تيسير العزيز الحميد) وغيره)

الثاني:

الخوفُ الطبيعيُّ والْجِبْلِيُّ،

فهذا في الأصلِ مُبَاحٌ؛ لقوْلِهِ تعالى عنْ موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} وقوْلِهِ أيضًا: {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} .

لكنْ إنْ حَمَلَ على ترْكِ واجبٍ أوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فهوَ مُحَرَّمٌ، وإن استلزَمَ شيئًا مُبَاحًا كانَ مُبَاحًا، فمثلاً مَنْ خافَ مِنْ شيءٍ لا يُؤَثِّرُ عليهِ، وحملَهُ هذا الخوفُ على تَرْكِ صلاةِ الجماعةِ معَ وُجوبِهَا، فهذا الخوفُ مُحَرَّمٌ، والواجبُ عليهِ أنْ لا يَتَأَثَّرَ بهِ.

وإنْ هدَّدَهُ إنسانٌ على فعلِ محرَّمٍ فخافَهُ،

وهوَ لا يستطيعُ أنْ يُنَفِّذَ ما هدَّدَهُ بهِ، فهذا خوفٌ مُحَرَّمٌ؛ لأنَّهُ يُؤَدِّي إلى فعلٍ مُحَرَّمٍ بلا عُذْرٍ، وإنْ رأَى نارًا ثمَّ هَرَبَ منها ونَجَا بنفسِهِ فهذا خوفٌ مُبَاحٌ، وقدْ يكونُ واجبًا إذا كانَ يتَوَصَّلُ بهِ إلى إنقاذِ نفسِهِ.

وهناكَ ما يُسَمَّى بالوَهْمِ وليسَ بخوفٍ،

مثلُ أنْ يرى ظِلَّ شجرةٍ تهتزُّ فيَظُنُّ أنَّ هذا عدَوٌّ يتهدَّدُهُ، فهذا لا ينبغي للمؤمنِ أنْ يكونَ كذلكَ، بلْ يُطَارِدُ هذهِ الأوهامَ؛ لأنَّهُ لا حقيقةَ لها، وإذا لمْ تُطَارِدْها فإنَّها تُهْلِكُكَ.

ومناسبةُ الخوفِ للتوحيدِ:

أنَّ منْ أقسامِ الخوفِ ما يكونُ شركًا منافيًا للتوحيدِ، هيَ قوْلُهُ تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} .

{إِنَّمَا ذَلِكُمْ}

صيغةُ حَصْرٍ، والمشارُ إليهِ التخويفُ من المشركين، {ذَلِكُمْ} (ذَا) مُبْتَدَأٌ، و {الشَّيْطَانُ} يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ خبرَ المبتدأِ، وجُمْلَةُ {يُخَوِّفُ} حالٌ مِن الشيطانِ.

ويَحْتَمِلُ:

أنْ يكونَ {الشَّيْطَانُ} صفةً لـ {ذَلِكُمْ} أوْ عَطْفَ بيانٍ، و {يُخَوِّفُ} خبرَ المبتدأِ، والمعنى: ما هذا التخويفُ الذي حصلَ إلاَّ مِنْ شيطانٍ يُخَوِّفُ أولياءهُ.

و {يُخَوِّفُ} تَنْصِبُ مفعولَيْنِ؛ الأوَّلُ محذوفٌ وتقديرُهُ: يُخَوِّفكُمْ، والمفعولُ الثاني {أوْلِيَاءَهُ} ومعنى يُخَوِّفُكُمْ؛ أيْ: يُوقِعُ الخوفَ في قلوبِكِمْ منهمْ.

قال ابن القيم: (جميع المفسرين على أن معنى {يخوف أولياءه} أي: يخوفكم أولياءه) .

و {أَوْلِيَاءَهُ} أيْ: أنصارَهُ الذينَ ينصرونَ الفحشاءَ والمنكرَ؛ لأنَّ الشيطانَ يأْمُرُ بذلكَ.

فكلُّ مَنْ نصرَ الفحشاءَ والمنكرَ فهوَ مِنْ أولياءِ الشيطان، ثُمَّ قَدْ يكونُ النصرُ في الشركِ وما يُنَافِي التوحيدَ فيكونُ عظيمًا، وقدْ يكونُ دونَ ذلكَ.

قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) (1/118) : (ومن كيد عدو الله تعالى أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله تعالى عنه بهذا فقال: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} ) .

وقولُهُ: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} مِنْ ذلكَ ما وَقَعَ في الآيَةِ التي قبْلَها حيثُ قالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وذلكَ لِيَصُدُّوهُم عنْ واجبٍ منْ واجباتِ الدينِ وهوَ الجهادُ، فيُخَوِّفُونَهُمْ بذلكَ.

وكذلكَ:

ما يحْصُلُ في نفسِ مَنْ أَرادَ أنْ يَأْمُرَ بالمعروفِ أوْ يَنْهَى عن المنكرِ،

فَيُخَوِّفُهُ الشيطانُ لِيَصُدَّهُ عنْ هذا العملِ. وكذلكَ ما يقعُ في قَلْبِ الداعيَةِ.

والحاصلُ:

أنَّ الشيطانَ يُخَوِّفُ كلَّ مَنْ أرَادَ أنْ يقومَ بواجبٍ، فإذا ألقى الشيطانُ في نفسِكَ الخوفَ فالواجبُ عليكَ أنْ تَعْلَمَ أنَّ الإقدامَ على كلمةِ الحقِّ ليسَ هوَ الذي يُدْنِي الأجَلَ، وليسَ السكوتُ والجُبنُ هوَ الذي يُبعدُ الأجلَ، فكمْ منْ داعيَةٍ صَدَعَ بالحقِّ وماتَ على فراشِهِ، وكمْ منْ جبانٍ قُتِلَ في بيْتِهِ، وانْظُرْ إلى خالدِ بنِ الوليدِ؛ كانَ شجاعًا مِقْدَامًا وماتَ على فراشِهِ.

وما دامَ الإنسانُ قائمًا بأمرِ اللهِ؛

فَلْيَثِقْ بأنَّ اللهَ معَ الذينَ اتَّقَوْا والذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، وحزبُ اللهِ هم الغالبونَ.

قوْلُهُ: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} لا: ناهيَةٌ، والهاءُ ضميرٌ يعودُ على أولياءِ الشيطانِ، وهذا النهيُ للتحريمِ بلا شكٍّ؛ أيْ: بل امضُوا فيما أمَرْتُكُمْ بِهِ، وفيما أَوْجَبْتُهُ عليكُمْ من الجهادِ، ولا تخافوا هؤلاءِ.

وإذا كانَ اللهُ معَ الإنسانِ فإنَّهُ لا يَغْلِبُهُ أحدٌ،

لكنْ نحتاجُ في الحقيقةِ إلى صِدْقِ النيَّةِ والإخلاصِ والتوكُّلِ التامِّ؛ ولهذا قالَ تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

وعُلِمَ مِنْ هذهِ الآيَةِ أنَّ للشيطانِ وَسَاوِسَ يُلْقِيها في قلبِ ابنِ آدمَ، منها التخويفُ منْ أعدائِهِ، وهذا ما وقعَ فيهِ كثيرٌ من الناسِ وهوَ الخوفُ منْ أعداءِ اللهِ، فكانوا فريسةً لهمْ، وإلاَّ لو اتَّكَلُوا على اللهِ وخافُوهُ قبلَ كلِّ شيءٍ لخَافَهُم الناسُ؛ ولهذا قيلَ في المَثَلِ: (مَنْ خَافَ اللهَ خافَهُ كلُّ شيءٍ، ومَن اتَّقَى اللهَ اتَّقَاهُ كُلُّ شيءٍ، ومَنْ خافَ مِنْ غيرِ اللهِ خافَ مِنْ كلِّ شيءٍ) .

ويُفْهَمُ من الآيَةِ أنَّ الخوفَ من الشيطانِ وأوليائِهِ مُنَافٍ للإيمانِ، فإنْ كانَ الخوفُ يُؤَدِّي إلى الشركِ فهوَ منافٍ لأصلِهِ، وإلاَّ فهوَ مُنَافٍ لكمالِهِ.

قولُهُ تعالى:

{إِنَّمَا يَعْمُرُ} ، {إِنَّمَا} أداةُ حصرٍ، والمرادُ بالعِمَارةِ العِمَارةُ المعنوِيَّةُ، وهيَ عِمَارَتُها بالصلاةِ والذِّكرِ وقراءةِ القرآنِ ونحْوِها، وكذلكَ الحسِّيَّةُ بالبناءِ الحِسِّيِّ، فإنَّ عِمَارَتَهَا بهِ حقيقةٌ لا تكونُ إلاَّ مِمَّنْ ذكَرَهُم اللهُ؛ لأنَّ مَنْ يعْمُرُها وَهُوَ لمْ يُؤْمِنْ باللهِ واليومِ الآخِرِ لمْ يعْمُرْهَا حقيقةً؛ لعدمِ انتفاعِهِ بهذهِ العمارةِ.

فالعمارةُ النافعةُ الحسِّيَّةُ والمعنويَّةُ من الذينَ آمَنُوا باللهِ واليومِ الآخرِ، ولهذا لمَّا افتخرَ المشركونَ بعِمَارةِ المسجدِ الحرامِ قالَ تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وأضافَ سبحانَهُ المساجدَ إلى نفسِهِ تشريفًا؛ لأنَّها مَوْضِعُ عبادتِهِ.

قولُهُ: {مَنْ آمَنْ بِاللهِ} ، {مَنْ} فاعلُ {يعْمُرُ} والإيمانُ باللهِ يتضَمَّنُ أربعةَ أُمورٍ، وهيَ:

-الإيمانُ بِوُجُودِهِ.

-ورُبُوبِيَّتِهِ.

-وأُلُوهيَّتِهِ.

-وأسمائِهِ وصفاتِهِ.

واليومُ الآخِرُ: هوَ يومُ القيامةِ، وسُمِّيَ بذلكَ؛ لأنَّهُ لا يومَ بعْدَهُ.

قولُهُ: {وَأَقَامَ الصَّلاَةَ} أيْ: أَتَى بها على وجهٍ قَوِيمٍ لا نَقْصَ فيهِ، والإقامةُ نوعانِ:

الأول:إقامةٌ واجبةٌ وهيَ: التي يقْتَصِرُ فيها على فِعْلِ الواجبِ من الشروطِ والأركانِ والواجباتِ.

الثاني: وإقامةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وهيَ: التي يَزِيدُ فيها على فِعْلِ ما يجبُ، فيأتي بالواجبِ والمُسْتَحَبِّ.

قولُهُ: {وَآتَى الزَّكَاةَ} ، {آتَى} تَنْصِبُ مفعوليْنِ؛ الأوَّلُ هنا {الزَّكَاةُ} ، والثاني: محذوفٌ تقديرُهُ: مُسْتَحِقَّها.

والزكاةُ هيَ: المالُ الذي أَوْجَبَهُ الشارعُ في الأموالِ الزَّكَوِيَّةِ. وتختلفُ مقاديرُها حَسَبَ ما تقْتَضِيهِ حكمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ.

قولُهُ: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} في هذهِ الآيَةِ حَصْرٌ طريقُهُ الإثباتُ والنفيُ؛ {لَمْ يَخْشَ} نفيٌ، {إلاَّ اللهَ} إثباتٌ، والمعنى: أنَّ خَشْيَتَهُ انحصرَتْ في اللهِ عزَّ وجلَّ، فلا يَخْشَى غيرَهُ.

والشاهدُ من الآيَةِ هو:

قولُهُ: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} ولهذا قالَ تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} .

ومِنْ علاماتِ صِدْقِ الإيمانِ:

أنْ لا يخشى إلاَّ اللهَ في كلِّ ما يقولُ ويفعلُ.

ومَنْ أرادَ أنْ يُصَحِّحَ هذا المسيرَ فليتَأَمَّلْ قولَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:

(( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ ) ).

قولُهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ} جارٌّ ومجرورٌ خبرٌ مُقَدَّمٌ، و {مِنْ} تَبْعِيضِيَّةٌ.

وقولُهُ: {مَنْ يقُولُ} ، {مَنْ} مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ.

والمرادُ بهؤلاءِ: مَنْ لا يَصِلُ الإيمانُ إلى قرارةِ قلبِهِ فيقولُ: آمنَّا باللهِ، لكنَّهُ إيمانٌ مُتَطرِّفٌ، كقولِهِ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} على حَرْفٍ: أيْ: على طَرَفٍ، فإذا امتحنَهُ اللهُ بما يُقَدِّرُ عليهِ منْ إيذاءِ الأعداءِ في اللهِ جعلَ فتنةَ الناسِ كعذابِ اللهِ.

قولُهُ: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ} ، {في} للسببيَّةِ؛ أيْ: بسببِ الإيمانِ باللهِ وإقامةِ دينِه،

ويجُوزُ أنْ تكونَ {في} للظرفيَّةِ على تقديرِ: فإذا أُوذِيَ في شَرْعِ اللهِ؛ أيْ: إيذاءً في هذا الشرعِ الذي تمَسَّكَ بِهِ.

قولُهُ: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} جعلَ: صَيَّرَ، والمرادُ بالفتنةِ هنا الإيذاءُ. وسُمِّيَ فتنةً؛ لأنَّ الإنسانَ يَفْتَتِنُ بهِ فَيَصُدُّ عنْ سبيلِ اللهِ، كما قَالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} وإضافةُ الفتنةِ إلى الناسِ مِنْ بابِ إضافةِ المصدرِ إلى فاعلِهِ.

قولُهُ: {كَعَذَابِ اللهِ} ومعلومٌ أنَّ الإنسانَ يَفِرُّ منْ عذابِ اللهِ فَيُوَافِقُ أمْرَهُ، فهذا يجعلُ فتنةَ الناسِ كعذابِ اللهِ فَيَفِرُّ منْ إيذائِهم بموافقةِ أهوائِهمْ وأَمْرِهم، جعلاً لهذهِ الفتنةِ كالعذابِ، فحينئذٍ يكونُ قدْ خافَ مِنْ هؤلاءِ كخَوْفِهِ مِن اللهِ؛ لأنَّهُ جَعَلَ إيذاءهُم كعذابِ اللهِ، فَفَرَّ منهُ بموافقةِ أمْرِهم، فالآيَةُ مُوَافِقَةٌ للترجمةِ.

وفي هذهِ الآيَةِ مِن الحكمةِ العظيمةِ، وهيَ ابتلاءُ اللهِ للعبدِ لأجْلِ أنْ يُمَحِّصَ إيمانَهُ، وذلكَ على قسمَيْنِ:

الأوَّلُ:

ما يُقَدِّرُهُ اللهُ نفسُهُ على العبدِ، كقوْلِهِ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} .

-وقولِهِ تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (125) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .

الثاني: ما يُقَدِّرُهُ اللهُ على أيْدِي الخلقِ من الإيذاءِ امتحانًا واختبارًا، وذلكَ كالآيَةِ التي ذَكَرَ المُؤَلِّفُ.

وبعضُ الناسِ إذا أصابَتْهُ مصائبُ لا يَصْبِرُ، فيكْفُرُ ويَرْتَدُّ أحيانًا والعياذُ باللهِ، وأحيانًا يكْفُرُ بما خالفَ فيهِ أَمْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ في موقفِهِ في تلكَ المصيبةِ. وكثيرٌ من الناسِ يَنْقُصُ إيمانُهُ بسببِ المصائبِ نقصًا عظيمًا.

فلْيَكُن المسلمُ على حَذَرٍ، فاللهُ حكيمٌ يمْتَحِنُ عبادَهُ بما يتبَيَّنُ بهِ تحقُّقُ الإيمانِ، قالَ تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} .

قولُهُ: (( الآيَةَ ) )أيْ: إلى آخرِ الآيَةِ، وهيَ قولُهُ تعالى: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} كانوا يدَّعُونَ أنَّ ما يحصُلُ لهمْ مِن الإيذاءِ بسببِ الإيمانِ، فإذا انتصرَ المسلمونَ قالُوا: نحنُ معكُمْ، نُرِيدُ أنْ يُصِيبَنا مِثْلَمَا أصابَكُمْ مِنْ غنيمةٍ وغيرِها.

وفي الآيَةِ تحذيرٌ مِنْ أنْ يقولَ الإنسانُ خلافَ ما في قلبِهِ،

ولهذا لمَّا تخلَّفَ كعبُ بنُ مالكٍ في غزْوَةِ تبوكَ قالَ للرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حينَ رَجِعَ: (إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَدَلاً، ولَوْ جَلَسْتُ إِلَى غَيْرِكَ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا لَخَرَجْتُ مِنْهُمْ بِعُذْرٍ، لَكِنْ لاَ أَقُولُ شَيْئًا تَعْذِرُنِي فِيهِ فَيَفْضَحُنِي اللهُ فِيه) .

والشاهدُ مِن الآيَةِ قولُهُ: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ} فخافَ الناسَ مثلَ خوفِ اللهِ تعالى.

قولُهُ:

(( إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ ) ) (( مِنْ ) ): للتَّبْعِيضِ، والضَّعْفُ ضدُّ القُوَّةِ، ويُقَالُ: ضَعْفٌ أوْ ضُعْفٌ، وكِلاهُما بمعنًى واحدٍ؛ أيْ: منْ علامةِ ضَعْفِ اليقينِ.

قولُهُ: (( أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ ) ) (( أَنْ تُرْضِيَ ) )اسمُ (( إنَّ ) )مُؤَخَّرٌ، و (( مِنْ ضَعْفِ اليَقينِ ) )خبرُها مقدَّمٌ، والتقديرُ: إنَّ إرْضَاءَ الناسِ بسَخَطِ اللهِ منْ ضَعْفِ اليقينِ.

قولُهُ: (( بِسَخَطِ اللهِ ) )الباءُ للعِوَضِ، يعني أنْ تجْعَلَ عِوَضَ إرضاءِ الناسِ سَخَطَ اللهِ، فتسْتَبْدِلَ هذا بهذا، فهذا منْ ضَعْفِ اليقينِ، واليقينُ أعلى درجاتِ الإيمانِ.

قال شيخ الإسلام: (اليقين هو التمسك بأمر الله، والعمل على إيقاع أمر الله وفق ما أمر الله به) .

قولُهُ: (( وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللهِ ) )، الحَمْدُ وصفُ المحمودِ بالكمالِ معَ المحبَّةِ والتعظيمِ، ولكنَّهُ هنا ليسَ بشرطِ المحبَّةِ والتعظيمِ؛ لأنَّهُ يشمَلُ المدحَ.

و (( رِزْقِ اللهِ ) )عطاءِ اللهِ، أيْ: إذا أعْطَوْكَ شيئًا حَمِدْتَهُمْ ونَسِيتَ المُسبِّبَ وهوَ اللهُ.

والمعنى أنْ تجعلَ الحمدَ كلَّهُ لهمْ متناسِيًا بذلكَ المُسَبِّبَ وهوَ اللهُ، فالَّذِي أعْطَاكَ سببٌ فقطْ، والمُعْطِي هوَ اللهُ؛ ولهذا قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، اللهُ يُعْطِي ) ).

أمَّا إنْ كانَ في قَلْبِكَ أنَّ اللهَ هوَ الذي مَنَّ عليكَ بسياقِ هذا الرزقِ، ثمَّ شَكَرْتَ الذي أعطاكَ، فليسَ هذا داخلاً في الحديثِ، بلْ هوَ مِن الشَّرعِ؛ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فإنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ ) ).

إِذَن الحديثُ ليسَ على ظاهرِهِ مِنْ كلِّ وجهٍ، فالمرادُ بالحمدِ أنْ تحْمَدَهُم الحمدَ المطلقَ ناسيًا المُسَبِّبَ وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ، وهذا مِنْ ضَعْفِ اليقينِ، كأنَّكَ نسيتَ المُنْعِمَ الأصليَّ وهوَ اللهُ عزَّ وجلَّ الذي لهُ النعمةُ الأُولَى، وهوَ سَفَهٌ أيضًا؛ لأنَّ حقيقةَ الأمرِ أنَّ الذي أعطاكَ هوَ اللهُ، فالبَشَرُ الذي أعْطَاكَ هذا الرزقَ لم يَخْلُقْ ما أعْطَاكَ، فاللهُ هوَ الذي خَلَقَ ما بيدِهِ، وهوَ الذي عطفَ قلبَهُ حتَّى أعطاكَ.

أرَأَيْتَ لوْ أنَّ إنسانًا لهُ طِفْلٌ فأعطَى طِفْلَهُ ألفَ دِرْهَمٍ وقالَ لهُ: أَعْطِهَا فلانًا، فالَّذِي أخذَ الدراهمَ يحمَدُ الأبَ؛ لأنَّهُ لوْ حَمِدَ الطفلَ فقطْ لعُدَّ هذا سَفَهًا؛ لأنَّ الطفلَ ليسَ إلاَّ مُرسَلاً فقطْ.

وعلى هذا فنقولُ: إنَّكَ إذا حَمِدْتَهُمْ ناسيًا بذلكَ ما يجبُ للهِ من الحمدِ والثناءِ فهذا هوَ الذي مِنْ ضَعْفِ اليقينِ.

أمَّا إذا حَمِدْتَهُمْ على أنَّهم سببٌ مِن الأسبابِ،

وأنَّ الحمدَ كلَّهُ للهِ عزَّ وجلَّ فهذا حقٌّ، وليسَ منْ ضَعْفِ اليقينِ.

قولُهُ: (( وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ ) )هذهِ عكسُ الأولى، فمثلاً: لوْ أنَّ إنسانًا جاءَ إلى شخصٍ يُوَزِّعُ دراهمَ فلمْ يُعْطِهِ فَسَبَّهُ وشتمَهُ، فهذا مِن الخطأِ؛ لأنَّ ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لمْ يَشَأْ لمْ يكُنْ.

لكنْ منْ قصَّرَ بواجبٍ عليهِ فيُذَمُّ؛ لأجْلِ أنَّهُ قصَّرَ بالواجبِ، لا لأجْلِ أنَّهُ لمْ يُعْطِ، فلا يُذَمُّ مِنْ حيثُ القَدَرُ؛ لأنَّ اللهَ لوْ قدَّرَ ذلكَ لوُجِدَت الأسبابُ التي يَصِلُ بها إليكَ هذا العطاءُ.

وقولُهُ: (( مَا لَمْ يُؤْتِكَ ) )علامةُ جَزْمِهِ حذفُ الياءِ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ؛ لأنَّهُ فَضْلَةٌ، والتقديرُ: ما لمْ يُؤْتِكَهُ.

قولُهُ: (( إِنَّ رِزْقَ اللهِ لاَ يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلاَ يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ ) )هذا تعليلٌ لقولِهِ: (( أَنْ تَحْمَدَهُمْ... وَأَنْ تَذُمَّهُمْ ) )ورِزْقُ اللهِ عطاؤُهُ، وحِرْصَ الحريصِ مِنْ سببِهِ بلا شكٍّ، فإذا بحثَ عَن الرزقِ وفَعَلَ الأسبابَ فإنَّهُ يكونُ فَعَلَ الأسبابَ المُوجِبَةَ للرزقِ. لكنْ ليسَ المعنى أنَّ هذا السببَ مُوجِبٌ مُسْتَقِلٌّ، وإنَّما الذي يَرْزُقُ هوَ اللهُ تعالى، وكَمْ مِنْ إنسانٍ يفعلُ أسبابًا كثيرةً للرزقِ ولا يُرزَقُ، وكمْ مِنْ إنسانٍ يفعلُ أسبابًا قليلةً فيُرزَقُ، وكمْ مِنْ إنسانٍ يأتيهِ الرزقُ بدُونِ سعيٍ، كما لوْ وَجَدَ رِكَازًا في الأرضِ، أوْ مَاتَ لهُ قريبٌ غَنِيٌّ يرِثُهُ، أوْ ما أشْبهَ ذلكَ.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام