فهرس الكتاب
الصفحة 32 من 93

وَقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الحقَّ إنما المَسِيحُ عِيسى ابنُ مَرْيمَ رَسُولُ اللهِ وكَلِمَتُهُ ألْقَاها إِلَى مَرْيمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النِّسَاء:171] .

فِي (الصَّحِيحِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نُوح:23] .

قَالَ: (هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ، أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِي الْعِلْمُ عُبِدَتْ) .

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: (قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: لَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ) .

وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ) )أَخْرَجَاهُ.

وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ ) ).

ولِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ ) ). قَالَهَا ثَلاَثًا.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

أَنَّ مَنْ فَهِمَ هَذَا الْبَابَ وَبَابَيْنِ بَعْدَهُ تَبَيَّنَ لَهُ غُرْبَةُ الإِسْلاَمِ،

وَرَأَى مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَتَقْلِيبِهِ لِلْقُلُوبِ الْعَجَبَ.

الثَّانِيَةُ:

مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شِرْكٍ حَدَثَ فِي الأَرْضِ أَنَّهُ بِشُبْهَةِ الصَّالِحِينَ.

الثَّالِثَةُ:

مَعْرِفَةُ أَوَّلِ شَيْءٍ غُيِّرَ بِهِ دِينُ الأَنْبِيَاءِ،

وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ، مَعَ مَعْرِفَةِ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُمْ.

الرَّابِعَةُ:

قَبُولُ الْبِدَعِ مَعَ كَوْنِ الشَّرَائِعِ وَالْفِطَرِ تَرُدُّهَا

الْخَامِسَةُ:

أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَزْجُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ

فَالأَوَّلُ:

مَحَبَّةُ الصَّالِحِينَ.

وَالثَّانِي:

فِعْلُ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ شَيْئًا أَرَادُوا بِهِ خَيْرًا فَظَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ غَيْرَهُ.

السَّادِسَةُ:

تَفْسِيرُ الآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ نُوحٍ.

السَّابِعَةُ:

جِبِلَّةُ الآدَمِيِّ فِي كَوْنِ الْحَقِّ يَنْقُصُ فِي قَلْبِهِ وَالْبَاطِلِ يَزِيدُ.

الثَّامِنَةُ:

فِيهِ شَاهِدٌ لِمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ

أَنَّ الْبِدَعَ سَبَبُ الْكُفْرِ.

التَّاسِعَةُ:

مَعْرِفَةُ الشَّيْطَانِ بِمَا تَؤُولُ إِلَيْهِ الْبِدْعَةُ

وَلَوْ حَسُنَ قَصْدُ الْفَاعِلِ.

الْعَاشِرَةُ:

مَعْرِفَةُ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَهِيَ النَّهْيُ عَنِ الْغُلُوِّ

وَمَعْرِفَةُ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:

مَضَرَّةُ الْعُكُوفِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لأَِجْلِ عَمَلٍ صَالِحٍ.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:

مَعْرِفَةُ النَّهْيِ عَنِ التَّمَاثِيلِ

وَالْحِكْمَةِ فِي إِزَالَتِهَا.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:

مَعْرِفَةُ عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا

مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهَا.

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:

وَهِيَ - أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ -

قِرَاءتُهُمْ إِيَّاهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِمَعْنَى الْكَلاَمِ، وَكَوْنُ اللهِ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُلُوبِهِمْ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّ فِعْلَ قَوْمِ نُوحٍ هُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ فَهُوَ الْكُفْرُ الْمُبِيحُ لِلدَّمِ وَالْمَالِ.

الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:

التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ.

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:

ظَنُّهُمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ صَوَّرُوا

الصُّوَرَ أَرَادُوا ذَلِكَ.

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:

الْبَيَانُ الْعَظِيمُ

فِي قَوْلِهِ: (( لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ) )فَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ بَلَّغَ الْبَلاَغَ الْمُبِينَ.

الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:

نَصِيحَتُهُ إِيَّانَا بِهَلاَكِ الْمُتَنَطِّعِينَ.

التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ:

التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا لَمْ تُعْبَدْ حَتَّى نُسِيَ الْعِلْمُ، فَفِيهَا بَيَانُ مَعْرِفَةِ قَدْرِ وُجُودِهِ وَمَضَرَّةِ فَقْدِهِ.

الْعِشْرُونَ:

أَنَّ سَبَبَ فَقْدِ الْعِلْمِ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ.

قولُهُ:(سَبَبُ كُفْرِ بَنِي

آدَمَ)السَّبَبُ في اللُّغَةِ: مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى غَيْرِهِ.

وأمَّا في الاصْطِلاَحِ عندَ أَهْلِ الأُصُولِ:

فهوَ الذي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الوُجُودُ، ومِنْ عَدَمِهِ العَدَمُ.

أيْ: إذا وُجِدَ السَّبَبُ وُجِدَ المُسَبَّبُ، وإِذَا عُدِمَ السَّبَبُ عُدِمَ المُسَبَّبُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرُ يَثْبُتُ بِهِ المُسَبَّبُ.

الغُلُوُّ:

هوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في الثَّنَاءِ مَدْحًا أوْ قَدْحًا.

والقَدْحُ:

يُسَمَّى ثناءً، ومنهُ الجَنَازَةُ التي مَرَّتْ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا.

والغُلُوُّ هنا: مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في الثَّنَاءِ مَدْحًا.).

قال شيخ الإسلام: (الغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في شيء في حمده أو ذمه على ما يستحق)

قولُهُ: (الصَّالِحِينَ) الصَّالِحُ: هوَ الذي قَامَ بِحَقِّ اللهِ وحَقِّ العِبَادِ.

وفي هذه التَّرْجَمَةِ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إلى سَبَبِهِ دونَ أنْ يُنْسَبَ إلى اللهِ بِقَوْلِهِ: (إنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وتَرْكِهِم دِينَهُم هوَ الغُلُوُّ في الصَّالِحِينَ) وهذا جَائِزٌ إذا كَانَ السَّبَبُ حَقِيقَةً وصَحِيحًا، وذَلِكَ إذا كَانَ السَّبَبُ قَدْ أُثْبِتَ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ، أو الحِسِّ، أو الوَاقِعِ.

وقدْ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (( لوْلاَ أَنَا؛ لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) )يَعْنِي عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ.

قولُهُ:

{ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } أيْ: لاَ تَتَجَاوَزُوا الحَدَّ مَدْحًا أوْ قَدْحًا.

والأمْرُ واقِعٌ كذلكَ بالنِّسْبَةِ لأَِهْلِ الكِتَابِ عُمُومًا، فإِنَّهم غَلَوْا في عيسَى بنِ مَرْيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَدْحًا وقَدْحًا؛ حَيْثُ قَالَ النَّصارَى: إنَّهُ ابنُ اللهِ وَجَعَلُوهُ ثَالِثَ ثَلاَثَةٍ.

واليَهُودُ غَلَوْا فيهِ قَدْحًا

وقَالُوا: (إنَّ أُمَّهُ زَانِيَةٌ، وإنَّهُ ولَدُ زِنًا) قَاتَلَهُم اللهُ، فَكُلٌّ مِن الطَّرَفَيْنِ غَلاَ في دِينِهِ وتَجَاوَزَ الحَدَّ بَيْنَ إِفْرَاطٍ وتَفْرِيطٍ.

قولُهُ: {وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} وهوَ مَا قَالَهُ سُبْحانَهُ وتَعَالَى عنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً ولاَ وَلَدًا.

قولُهُ: { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ } هذه صِيغَةُ حَصْرٍ، وطَرِيقُهُ {إِنَّما} فيكونُ الْمَعْنَى: مَا المَسِيحُ عِيسَى بنُ مَرْيمَ إِلاَّ رَسُولُ اللهِ، وأَضَافَهُ إلى أُمِّهِ ليَقْطَعَ قَوْلَ النَّصارَى الذينَ يُضِيفُونَهُ إلى اللهِ.

وفي قَوْلِهِ: {رَسُولُ اللهِ} إِبْطَالٌ لِقَوْلِ اليهودِ: إِنَّهُ كَذَّابٌ، ولقَوْلِ النَّصارَى: إِنَّهُ إِلَهٌ.

وفي قَوْلِهِ: {وَكَلِمَتُهُ} إِبْطَالٌ لِقَوْلِ اليهودِ: (إِنَّهُ ابنُ زِنًا) .

وكَلِمَتُهُ التي ألْقَاهَا إلى مَرْيمَ: أنْ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ.

قولُهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أيْ: أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- كَغَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ جَسَدٍ ورُوحٍ، وأَضَافَ رُوحَهُ إليهِ تَشْرِيفًا وتَكْرِيمًا، كَمَا في قولِهِ تَعَالَى في آدَمَ: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } فهذا للتَّشْرِيفِ والتَّكْرِيمِ.

قولُهُ: { إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أيْ: تَنْزِيهًا لَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ؛ لأَِنَّهُ مَالِكٌ لِمَا في السَّماواتِ ومَا في الأَرْضِ، ومِنْ جُمْلَتِهِم عِيسَى بنُ مَرْيمَ عَلَيهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فهوَ مِنْ جُمْلَةِ المَمْلُوكِينَ المَرْبُوبِينَ، فكيفَ يكونُ إِلَهًا مَعَ اللهِ أوْ وَلَدًا للهِ؟!.

والشَّاهِدُ مِنْ هذه الآيَةِ قولُهُ: { لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } فنَهَى عَنِ الغُلُوِّ في الدِّينِ؛ لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَفَاسِدَ كَثِيرَةً:

مِنْهَا: أنَّهُ تَنْزِيلٌ للمَغْلُوِّ فيهِ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ إنْ كَانَ مَدْحًا، وتَحْتَها إِنْ كَانَ قَدْحًا.

ومنها: أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى عِبَادَةِ هذا المَغْلُوِّ فيهِ كَمَا هوَ الوَاقِعُ مِنْ أَهْلِ الغُلُوِّ.

ومنها: أَنَّهُ يَصُدُّ عنْ تَعْظِيمِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى؛ لأنَّ النَّفْسَ إِمَّا أنْ تَنْشَغِلَ بالبَاطِلِ أوْ بالحَقِّ، فإذا انْشَغَلَتْ بالغُلُوِّ بِهَذا المَخْلُوقِ وإِطْرَائِهِ وتَعْظِيمِهِ تَعَلَّقَتْ بِهِ، ونَسِيَتْ مَا يَجِبُ للهِ تَعَالَى مِنْ حُقُوقٍ.

ومنها:

أنَّ المَغْلُوَّ فيهِ إنْ كانَ مَوْجُودًا فإِنَّهُ يَزْهُو بنَفْسِهِ،

ويَتَعاظَمُ ويُعْجَبُ بِهَا، وهذه مَفْسَدَةٌ تُفْسِدُ المَغَلُوَّ فيهِ إنْ كَانَتْ مَدْحًا، وتُوجِبُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ، وقِيامَ الحُرُوبِ والبَلاَءِ بَيْنَ هَذَا وهَذَا، إنْ كَانَتْ قَدْحًا.

قولُهُ: {فِي دِينِكُمْ} الدِّينُ يُطْلَقُ عَلَى العَمَلِ والجَزَاءِ، والمُرَادُ بِهِ هنا: العَمَلُ.

والمَعْنَى: لاَ تَجْعَلُوا عِبَادَتَكُم غُلُوًّا في المَخْلُوقِينَ وغَيرِهم.

وهَلْ يَدْخُلُ في هَذَا الغُلُوُّ في العِبَادَاتِ؟

الجَوابُ

: نَعَمْ يَدْخُلُ الغُلُوُّ في العِبَادَاتِ، مِثْلُ: أنْ يُرْهِقَ الإنسانُ نَفْسَهُ بالعِبَادَةِ ويُتْعِبَها، فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَهَى عنْ ذلكَ، أو يَزِيدَ عنِ المَشْرُوعِ كَأَنْ يَرْمِيَ بِجَمَرَاتٍ كبيرةٍ، أوْ يَأْتِيَ بأَذْكارٍ زَائِدةٍ عنِ المَشْرُوعِ أَدْبَارَ الصَّلواتِ تَكْمِيلاً للوَارِدِ، أوْ غيرِ هذا، فالنَّهْيُ عن الغُلُوِّ في الدِّينِ يَعُمُّ الغُلُوَّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

قولُهُ: {لاَ تَذَرُنَّ} أيْ: لاَ تَدَعُنَّ وتَتْرُكُنَّ، وهذا نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بالنُّونِ.

قَوْلُهُ: {آلِهَتَكُمْ} هَلِ المُرَادُ: لاَ تَذَرُوا عِبَادَتَها، أوْ: تُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ إِهَانَتِها؟

الجَوابُ:

المَعْنَيانِ كلاهما؛ أي: انْتَصِروا لآلِهَتِكُم ولاَ تُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ إِهَانَتِهَا ولاَ تَدَعُوهَا للنَّاسِ، ولاَ تَدَعُوا عِبَادَتَها أيضًا، بل احْرِصُوا عليها، وهذا مِن التَّواصِي بالباطلِ، عكسَ الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَتَوَاصَوْنَ بالحَقِّ.

قولُهُ تَعَالَى: { وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } هذه الخَمْسَةُ كَانَ لَهَا مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهَا؛ لأنَّ قولَهُ: {آلِهَتَكُمْ} عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَعْبَدُونَ، وكَأَنَّها كِبَارُ آلِهَتِهِم فَخَصُّوها بالذِّكْرِ.

والآلِهَةُ

: جَمْعُ (إِلَهٍ) وهوَ: كُلُّ مَا عُبِدَ سَوَاءٌ بِحَقٍّ أوْ بِبَاطِلٍ، لكنْ إذَا كَانَ المَعْبُودُ هوَ اللهُ فهوَ حَقٌّ، وإِنْ كَانَ غَيْرَ اللهِ فهوَ بَاطِلٌ.

قالَ ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في هذه الآيَةِ: (هذه أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ) .

وفي هَذَا التَّفْسِيرِ إِشْكَالٌ حَيْثُ قَالَ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، وظَاهِرُ القُرْآنِ أنَّها قَبْلَ نُوحٍ، قَالَ تَعَالَى: { قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } .

فظَاهِرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا يَعْبُدُونَها، ثُمَّ نَهَاهُم نُوحٌ عَن عِبَادَتِهَا وأَمَرَهُم بِعِبَادَةِ اللهِ وحْدَهُ، ولكنَّهم أَبَوْا وقَالُوا: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } وهَذَا - أَعْنِي القَوْلَ بأَنَّهُم قَوْمُ نُوحٍ - قَولُ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ ومُحَمَّدِ بنِ قَيْسٍ، وهوَ الرَّاجِحُ لِمُوافَقَتِهِ ظَاهِرَ القُرْآنِ، ويَحْتَمِلُ -وهوَ بَعِيدٌ- أَنَّ هذا في أَوَّلِ رِسَالَةِ نُوحٍ، وأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ هؤلاَءِ الرِّجَالُ وآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذلكَ مَاتُوا قَبْلَ نُوحٍ ثُمَّ عَبَدُوهُم، لَكِنَّ هذا بَعِيدٌ حَتَّى مِنْ سِيَاقِ الأَثَرِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ.

فالمُهِمُّ في تَفْسيرِ الآيَةِ أَنْ يُقَالَ: هذه أَصْنامٌ في قَوْمِ

نُوحٍ كَانُوا رِجَالاً صَالِحِينَ، فَطَالَ عَلَى قَوْمِهِمُ الأَمَدُ فَعَبَدُوهُم.

قولُهُ: (أَوْحَى الشَّيطَانُ) أيْ: وحْيَ وَسْوَسَةٍ، ولَيْسَ وحْيَ إِلْهَامٍ.

قولُهُ: (أَن انْصِبُوا إلى مَجَالِسِهِم)

الأَنْصَابُ: جَمْعُ نُصْبٍ، وهوَ كُلُّ مَا يُنْصَبُ مِنْ عَصًا أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ.

قولُهُ: (وسَمُّوها بِأَسْمَائِهم) أيْ: ضَعُوا أَنْصَابًا في مَجَالِسِهِم وقَولُوا: هذا

وَدٌّ، وهَذَا سُواعٌ، وهَذَا يَغُوثُ، وهَذَا يَعُوقُ، وهذا نَسْرٌ، لأَِجلِ إذَا رَأَيْتُمُوهم تَتَذَكَّرُوا عِبَادَتَهم فَتَنْشَطُوا عليها، هكذا زَيَّنَ لَهُم الشَّيْطَانُ، وهَذَا غُرُورٌ وَوَسْوَسَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ لآدَمَ: { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى } .

وإذا كَانَ لاَ يَتَذَكَّرُ عِبَادَةَ اللهِ إِلاَّ برُؤْيَةِ أَشْباحِ هؤلاءِ فهذه عِبَادَةٌ قَاصِرَةٌ أوْ مَعْدُومَةٌ.

قولُهُ: (فَفَعَلُوا، ولَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إذا هَلَكَ أولئكَ ونُسِيَ العِلْمُ، عُبِدتْ مِنْ دونِ اللهِ) ذَكَرَ

ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ ونُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ، والقَرْنُ مِائةُ سَنَةٍ، حَتَّى إذَا طَالَ عَلَيْهم الأَمَدُ حَصَلَ النِّزَاعُ والتَّفَرُّقُ؛ فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } الآيَةَ.

والآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابنُ عَبَّاسٍ، إِلاَّ أنَّ ظَاهِرَ السِّياقِ أَنَّ هؤلاءِ القَوْمَ الصَّالِحينَ كَانُوا قَبْلَ نُوحٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، وقدْ عَرَفْتَ القَوْلَ الرَّاجِحَ.

قولُهُ: (الأَمَدُ) الزَّمَنُ، وهذا كَتَفْسِيرِ

ابنِ عباسٍ، إلاَّ أنَّ ابنَ عباسٍ يقولُ: (إنَّهم جَعَلُوا الأَنْصَابَ في مَجَالِسِهِم) وهنا يَقُولُ: (عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِم) ولاَ يَبْعُدُ أَنَّهم جَعَلُوا هذا وهذا، أوْ أنَّهم قُبِرُوا في مَجَالِسِهم فَتَكُونُ هيَ مَحَلَّ القُبُورِ.

والشَّاهِدُ قولُهُ: (ثُمَّ طَالَ عَلَيْهم الأَمَدُ فعَبَدُوهم) فَسَبَبُ العِبَادَةِ إذًا الغُلُوُّ في هؤلاءِ الصَّالِحينَ حَتَّى عَبَدُوهم.

(9) قولُهُ: (( لاَ تُطْرُونِي ) )الإِطْرَاءُ: المُبَالَغَةُ في المَدْحِ.

وهذا النَّهْيُ يَحْتَمِلُ أنَّهُ مُنْصَبٌّ عَلَى هذا التَّشْبِيهِ وهوَ قولُهُ:

(( كَمَا أَطْرتِ النَّصارَى ابنَ مَرْيَمَ ) )حيثُ جَعَلُوهُ إِلَهًا، أو ابْنًا للهِ.

ويَحْتَمِلُ أنَّ النَّهْيَ عَامٌّ، فيَشْمَلُ مَا يُشَابِهُ غُلُوَّ النَّصارَى في عِيسَى ابنِ مَرْيمَ ومَا دونَهُ، ويكونُ قولُهُ: (( كَمَا أَطْرَتْ ) )لِمُطْلَقِ التَّشْبِيهِ لاَ للتَّشْبِيهِ المُطْلَقِ؛ لأَِنَّ إِطْرَاءَ النَّصارَى عيسَى بنَ مَرْيمَ سَبَبُهُ الغُلُوُّ في هذا الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، حيثُ جَعَلُوهُ ابْنًا للهِ وثَالِثَ ثَلاَثَةٍ، والدَّلِيلُ عَلَى أنَّ المُرَادَ هذا قولُهُ: (( إِنَّما أَنا عَبْدٌ، فَقُولوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ) ).

قولُهُ:

(( إِنَّما أَنا عَبْدٌ ) )أيْ: ليسَ لِي حقٌّ مِن الرُّبُوبِيَّةِ، ولاَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ اللهُ عزَّ وجلَّ أَبَدًا.

قولُهُ:

(( فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ) )هذانِ الوَصْفَانِ أَصْدَقُ وَصْفٍ وأَشْرَفُهُ في الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَأَشْرَفُ وَصْفٍ للإنْسانِ أنْ يكونَ مِنْ عِبَادِ اللهِ. قَالَ تَعَالَى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا } ، وقَالَ تَعَالَى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } فَوَصَفَهم اللهُ بالعُبُودِيَّةِ قبلَ الرِّسَالَةِ، مَعَ أنَّ الرِّسَالَةَ شَرَفٌ عَظِيمٌ، لَكِنَّ كَوْنَهم عِبَادًا للهِ عَزَّ وجَلَّ أَشْرَفُ وأَعْظَمُ، وأَشْرَفُ وَصْفٍ لَهُ وأَحَقُّ وَصْفٍ بِهِ.

فمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَبْدٌ لاَ يُعْبَدُ، ورَسُولٌ لاَ يَكْذِبُ، ولهذا نَقُولُ في صَلاَتِنا عِنْدَمَا نُسَلِّمُ عَلَيْهِ ونَشْهَدُ لهُ بالرِّسالَةِ: (وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) فهذا أَفْضَلُ وَصْفٍ اخْتَارَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لنَفْسِهِ.

واعْلَمْ أنَّ الحُقُوقَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ وهيَ:

الأوَّلُ:

حَقٌّ للهِ لاَ يُشرَكُ فيهِ غَيْرُهُ لاَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وهوَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِن الرُّبُوبِيَّةِ، والأُلُوهِيَّةِ، والأَسْمَاءِ والصِّفاتِ.

الثاني:

حقٌّ خَاصٌّ للرُّسُلِ، وهوَ إِعَانَتُهم وتَوْقِيرُهم وتَبْجِيلُهم بِمَا يَسْتَحِقُّونَ.

الثالثُ:

حَقٌّ مُشْتَرَكٌ وهوَ: الإِيمَانُ باللهِ ورُسُلِهِ، وهذه الحُقُوقُ مَوْجُودَةٌ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ وهيَ قولُهُ تَعَالَى: { لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ } فهذا حَقٌّ مُشْتَرَكٌ، { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } هذا خاصٌّ بالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } هذا خاصٌّ باللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.

-والذينَ يَغْلُونَ في الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَجْعَلُونَ حَقَّ اللهِ لَهُ فيَقُولُونَ: { وتُسَبِّحُوهُ } أي: الرَّسُولَ، فيُسَبِّحُونَ الرَّسُولَ كَمَا يُسَبِّحُونَ اللهَ، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ شِرْكٌ؛ لأَِنَّ التَّسْبِيحَ مِنْ حُقُوقِ اللهِ الخَاصَّةِ بهِ بِخِلاَفِ الإيمَانِ فهوَ مِن الحُقُوقِ المُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اللهِ ورَسُولِهِ.

ونَهَى عن الإِطْرَاءِ في قولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: (( كَمَا أَطْرَتِ النَّصارَى عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ ) )لأَِنَّ الإِطْرَاءَ والغُلُوَّ يُؤَدِّي إلى عِبَادَتِهِ، كَمَا هوَ الوَاقِعُ الآنَ، فيُوجَدُ عندَ قَبْرِهِ في المَدَينَةِ مَنْ يَسْأَلُهُ فيَقُولُ: (يا رَسُولَ اللهِ، المَدَدَ المَدَدَ، يا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنا، يا رَسُولَ اللهِ، بِلاَدُنا يابِسَةٌ..) وهكذا، ورَأَيْتُ بعَيْنَيَّ رَجُلاً يَدْعُو اللهَ تَحْتَ مِيزَابِ الكَعْبَةِ مُوَلِّيًا ظَهْرَهُ البَيْتَ مُسْتَقْبِلاً المَدِينةَ؛ لأنَّ اسْتِقْبالَ القَبْرِ عندَهُ أَشْرَفُ مِن اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ، والعِياذُ باللهِ.

ويَقُولُ بعضُ المُغَالِينَ:الكَعْبَةُ أَفْضَلُ مِن الحُجْرَةِ، فأَمَّا والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فيها فَلاَ واللهِ، ولاَ الكَعْبَةُ، ولاَ العَرْشُ وحَمَلَتُهُ، ولاَ الجَنَّةُ، فهوَ يُرِيدُ أنْ يُفَضِّلَ الحُجْرةَ عَلَى الكَعْبَةِ، وعَلَى العَرْشِ وحَمَلَتِهِ، وعَلَى الجَنَّةِ، وهذه مُبَالَغَةٌ لاَ يَرْضَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَنَا ولاَ لنَفْسِهِ.

وصَحِيحٌ أنَّ جَسَدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَفْضَلُ ولَكِنَّ كَوْنَهُ يَقُولُ: إنَّ الحُجْرَةَ أَفْضَلُ مِن الكَعْبَةِ والعَرْشِ والجَنَّةِ؛ لأنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فيها، هَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ مِنْ ذلكَ.

قولُهُ: (( إِيَّاكُمْ ) )للتَّحْذِيرِ.

قولُهُ: (( والغُلُوَّ ) )مَعْطُوفٌ عَلَى إيَّاكُم، وقد اضْطَرَبَ فيهِ المُعْرِبونَ اضْطَرَابًا كثيرًا، وأَقْرَبُ مَا قِيلَ للصَّوابِ وأَقَلُّهُ تَكَلُّفًا أَنَّ (إِيَّا) مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: إِيَّاكَ أُحَذِّرُ، أي: احْذَرْ نَفْسَكَ أنْ تَغُرَّكَ، والغُلُوُّ مَعْطُوفٌ عَلَى إِيَّاكَ؛ أيْ: واحْذَر الغُلُوَّ.

والغُلُوُّ

كَمَا سَبَقَ: هوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ مَدْحًا أوْ ذمًّا، وقَدْ يَشْمَلُ ما هوَ أَكْثَرَ مِنْ ذلكَ أيضًا، فيُقَالُ: مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في الثَّنَاءِ وفي التَّعَبُّدِ وفي العَمَلِ؛ لأَِنَّ هذا الحَدِيثَ وَرَدَ في رَمْيِ الجَمَرَاتِ، حيثُ رَوَى ابنُ عباسٍ قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ غَدَاةَ العَقَبَةِ وهوَ عَلَى نَاقَتِهِ:(( الْقُطْ لِيَ حَصًى ) )فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَياتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَل يَنْفُضُهنَّ في كَفِّهِ ويَقُولُ: (( أَمْثَالُ هَؤُلاَءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدِّينِ، فإنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ ) )) هذا لَفْظُ ابنِ مَاجَه.

(( الغُلُوُّ ) )فَاعِلُ (( أَهْلَكَ ) ).

قولُهُ: (( مَنْ كَان قَبْلَكُمْ ) )مَفْعولٌ مُقَدَّمٌ.

قولُهُ: (( فَإِنَّما ) )أَدَاةُ حَصْرٍ، والحَصْرُ: إِثْباتُ الحُكْمِ للمَذْكُورِ ونَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام