قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي (صَحِيحِهِ) : قَالَ قَتَادَةُ: (خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاَثٍ: زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلاَمَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ) انْتَهَى.
وَكَرِهَ قَتَادَةُ تَعَلُّمَ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَلَمْ يُرَخِّصِ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِيهِ، ذَكَرَهُ حَرْبٌ عَنْهُمَا.
وَرَخَّصَ فِي تَعَلُّمِ الْمَنَازِلِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ ) )رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ) .
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى:
الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ النُّجُومِ.
الثَّانِيَةُ:
الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ غَيْرَ ذَلِكَ.
الثَّالِثَةُ:
ذِكْرُ الْخِلاَفِ فِي تَعَلُّمِ الْمَنَازِلِ.
الرَّابِعَةُ:
الْوَعِيدُ فِيمَنْ صَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ السِّحْرِ، وَلَوْ عَرَفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ.
التَّنْجِيمُ
: مصدرُ نَجَّمَ بتشديدِ الجيمِ، أَيْ: تَعَلَّمَ عِلْمَ النجومِ أو اعتقدَ تأثيرَ النجومِ.
قال شيخ الإسلام - كما في (الفتاوى) (35/192) :(التنجيم: هو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية.
وهو صناعة محرمة بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين في جميع الملل...)
وعِلْمُ النجومِ ينقسمُ إلى قِسميْنِ:
أحدهما: علمُ التأثيرِ.
والآخر: علمُ التسييرِ.
فأما الأول: وهو علمُ التأثيِرِ
، وهذا ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
أولها:
أنْ يعتقدَ أنَّ هذهِ النجومَ مُؤَثِّرةٌ فاعلةٌ،
بمعنى أنَّها هِيَ التي تَخْلُقُ الحوادثَ والشرورَ، فهذا شِرْكٌ أكبرُ؛ لأنَّ مَن ادَّعى أنَّ معَ اللهِ خَالقًا فهوَ مشركٌ شِرْكًا أكبرَ، فهذا جَعَلَ المخلوقَ المُسَخَّرَ خالقًا مُسَخِّرًا.
ثانيها:
أنْ يجعلَها سببًا يَدَّعِي بهِ عِلْمَ الغيبِ؛
فيستدلُّ بحركاتِها وتنَقُّلاتِها وتغَيُّرَاتِها على أنَّهُ سيكونُ كذا وكذا؛ لأنَّ النَّجمَ الفلانِيَّ صارَ كذا وكذا، مثلَ أنْ يقولَ: هذا الإنسانُ ستكونُ حياتُهُ شقاءً؛ لأنَّهُ وُلِدَ في النَّجمِ الفُلانيِّ، وهذا حياتُهُ ستكونُ سعيدةً؛ لأنَّهُ وُلِدَ في النَّجْمِ الفُلانيِّ، فهذا اتَّخذَ تعلُّمَ النجومِ وسيلةً لادِّعاءِ عِلْمِ الغيبِ، ودَعْوَى علمِ الغيبِ كفرٌ مُخْرِجٌ عن الملَّةِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: { قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ } وهذا مِنْ أقوى أنواعِ الحَصْرِ؛ لأنَّهُ بالنَّفْيِ والإثباتِ، فإذا ادَّعَى عِلْمَ الغيبِ فقدْ كذَّبَ القرآنَ.
ثالثها:
أنْ يعتقدَها سببًا لحدوثِ الخيرِ والشرِّ،
أيْ: أنَّهُ إذا وَقَعَ شيءٌ نَسَبَهُ إِلى النجومِ، ولا يَنْسِبُ إِلى النُّجُومِ شيئًا إلاَّ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فهذا شِرْكٌ أصغرُ.
فإنْ قيلَ: ينْتَقِضُ هذا بما ثَبَتَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ في قولِهِ في الكسوفِ:
(( إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِمَا عِبَادَهُ ) )فمعنى ذَلِكَ أنَّهُما علامةُ إنْذَارٍ؟
والجوابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَوَّلُ:
أنَّهُ لا يُسَلَّمُ أنَّ للكُسوفِ تأثيرًا في الحوادثِ والعقوباتِ
من الجَدْبِ والقَحْطِ والحُرُوبِ؛ ولذلكَ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إِنَّهُمَا لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ ) )لا فيما مَضَى ولا في المستقبلِ، وإنَّما يُخَوِّفُ اللهُ بهما العبادَ لعلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وهذا أقربُ.
الثاني:
أنَّهُ لوْ سلَّمْنا أنَّ لهُما تأثيرًا،
فإنَّ النصَّ قدْ دلَّ على ذلكَ، وما دلَّ عليهِ النصُّ يجبُ القولُ بهِ، لكنْ يكونُ خاصًّا بهِ.
لكنَّ الوجهَ الأَوَّلَ هوَ الأقربُ:
أنَّنا لا نُسَلِّمُ أصلاً أنَّ لهُمَا تأثيرًا في هذا؛ لأنَّ الحديثَ لا يقتضيهِ، فالحديثُ ينصُّ على التخويفِ، والمخوِّفُ هوَ اللهُ تعالى، والمَخُوفُ عُقُوبَتُهُ، ولا أثرَ للكسوفِ في ذلكَ، وإنَّمَا هوَ علامةٌ فقطْ.
وأما الثاني: وهو علمُ التسييرِ
،وهذا ينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
أولهما:
أنْ يستدلَّ بسيْرِها على المصالحِ الدينيَّةِ،
فهذا مطلوبٌ، وإذا كانَ يُعِينُ على مصالحَ دينيَّةٍ واجبةٍ كانَ تعَلُّمُها واجبًا، كما لوْ أرادَ أنْ يستدِلَّ بالنجومِ على جهةِ القِبْلَةِ، فالنجمُ الفلانِيُّ يكونُ ثُلُثَ الليلِ قِبْلةً، والنَّجمُ الفلانِيُّ يكونُ رُبْعَ الليلِ قِبْلَةً، فهذا فيهِ فائدةٌ عظيمةٌ.
ثانيهما:
أنْ يستدلَّ بسَيْرِها على المصالحِ الدُّنيويَّةِ،
فهذا لا بَأْسَ بِهِ، وهوَ نَوعانِ:
النوعُ الأوَّلُ: أنْ يستدلَّ بِهَا على الجهاتِ،
كمعرفةِ أنَّ القُطْبَ يقعُ شمالاً، والجَدْيَ وَهُوَ قريبٌ مِنْهُ يدورُ حولَهُ شمالاً، وهكذا، فهذا جائزٌ، قالَ تعالى: { وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } .
النوعُ الثاني:
أنْ يستدلَّ بِها على الفُصُولِ، وهُوَ ما يُعْرَفُ بتعلُّمِ منازلِ القمرِ، فهذا كَرِهَهُ بعضُ السَّلفِ، وأَبَاحَهُ آخَرُونَ.
والذينَ كَرِهُوهُ قَالوا: يُخشَى إذا قيلَ: طَلَعَ النجمُ الفلانيُّ فهوَ وقتُ الشتاءِ أو الصيفِ، أنَّ بعضَ العامَّةِ يعتقدُ أنَّهُ هُوَ الذِي يأتي بالْبَرْدِ أوْ بالحرِّ أوْ بالرِّياحِ.
والصحيحُ:
عدمُ الكراهةِ كما سيأتي إنْ شاءَ اللهُ.
قولُهُ في أثرِ قتادةَ: (خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجومَ لِثلاثٍ) اللامُ للتعليلِ، أيْ: لبيانِ العِلَّةِ والحكمةِ.
قَولُهُ: (لِثلاثٍ) ويجوزُ لثلاثةٍ، لكنَّ الثلاثَ أحسنُ، أيْ: لثلاثِ حِكَمٍ، لهذا حَذَفَ تاءَ التأنيثِ من العددِ.
والأُولَى في هذه الثلاث:
زينةً للسماءِ، قالَ تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } لأنَّ الإنسانَ إذا رأَى السماءَ صافيةً في ليلةٍ غيرِ مُقْمِرَةٍ، وليسَ فيها كَهْرَبَاءُ يجدُ لهذهِ النجومِ من الجَمَالِ العظيمِ ما لا يعلمُهُ إلاَّ اللهُ، فتكونُ كأنَّها غابةٌ مُحَلاَّةٌ بأنواعٍ من الفضَّةِ اللامعةِ، هذهِ نجْمَةٌ مضيئةٌ كبيرةٌ تميلُ إلى الحُمْرَةِ، وهذهِ تميلُ إلى الزُّرْقَةِ، وهذهِ خفيفةٌ، وهذهِ مُتَوَسِّطَةٌ، وهذا شيْءٌ مُشَاهَدٌ.
وهلْ نقولُ: إنَّ ظاهرَ الآيةِ الكريمةِ أنَّ النجومَ مُرَصَّعةٌ في السماءِ، أوْ نقولُ: لا يَلزَمُ ذلكَ؟
الجوابُ:
لا يَلْزَمُ مِنْ ذَلكَ أنْ تكونَ النجومُ مُرَصَّعَةً في السماءِ،
قالَ تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أيْ: يدُورُونَ، كلٌّ لهُ فَلَكٌ.
وأَنا شاهَدْتُ بعينيَّ القمرَ وقد خَسَفَ نجمةً مِن النجومِ، أَيْ: غَطَّاهَا، وهِيَ مِن النجومِ اللامعةِ الكبيرةِ كانَ يَقْرُبُ حولَها في آخرِ الشهرِ، وعندَ قُرْبِ الفجْرِ غطَّاها، فَكُنَّا لا نَرَاها بالمَرَّةِ، وذلكَ قبلَ عامَيْنِ في آخِرِ رمضانَ.
إذَنْ هيَ أفلاكٌ مُتَفَاوِتَةٌ في الارتفاعِ والنزولِ، ولا يلزَمُ أنْ تكونَ مُرَصَّعَةً في السماءِ.
فإنْ قيلَ: فما الجوابُ عنْ قولِهِ تعالى: { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا } ؟
قُلنا: إنَّهُ لا يَلْزَمُ منْ تَزْيِينِ الشيءِ بالشيءِ أنْ يكونَ مُلاصقًا لهُ، أرَأَيْتَ لوْ أنَّ رجلاً عَمَّرَ قَصْرًا وجعلَ حولَهُ ثُرَيَّاتٍ من الكَهْرَبَاءِ كبيرةً وجميلةً، وليْسَتْ على جُدْرَانِهِ، فالناظرُ إلى القصرِ منْ بُعْدٍ يرى أنَّها زينةٌ لهُ، وإنْ لمْ تكُنْ ملاصقةً لهُ.
الثانيةُ: رُجُومًا للشَّيَاطِينِ،
أيْ: لشياطينِ الجنِّ، وليْسُوا شياطينَ الإنسِ؛ لأنَّ شياطينَ الإنسِ لمْ يَصِلُوهَا، لكنْ شياطينُ الجنِّ وَصَلُوهَا فهُمْ أقْدَرُ منْ شياطينِ الإنسِ، ولهمْ قُوَّةٌ عظيمةٌ نافذةٌ، قالَ تعالى عنْ عَمَلِهِم الدَّالِّ على قُدْرَتِهِم: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ } أيْ: سخَّرْنا لسليمانَ، { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ } .
-وقالَ تعالى: { قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } أيْ: منْ سَبَأٍ إلى الشامِ، وهوَ عرشٌ عظيمٌ لملكةِ سبأٍ، فهذا يدلُّ على قوَّتِهم وسُرْعَتِهم ونُفُوذِهم.
-وقالَ تعالى: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } والرَّجْمُ: الرَّمْيُ.
الثالثةُ:
علاماتٍ يُهْتَدَى بها، تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ تعالى: { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } فذكرَ اللهُ تعالى نوعَيْنِ من العلاماتِ التي يُهْتَدَى بها:
الأَوَّلُ:
أرضيَّةٌ، وتشملُ كلَّ ما جعلَ اللهُ في الأرضِ منْ علامةٍ، كالجبالِ والأنهارِ والطُّرُقِ ونحْوِها.
والثاني: أُفُقِيَّةٌ،
في قولِهِ تعالى: { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } .
والنجمُ: اسمُ جنسٍ يشملُ كلَّ ما يُهْتَدَى بهِ،
ولا يخْتَصُّ بنجمٍ مُعَيَّنٍ؛ لأنَّ لكلِّ قومٍ طريقةً في الاستدلالِ بهذهِ النجومِ على الجهاتِ، سواءٌ جهاتُ القِبْلَةِ أو المكانُ بَرًّا أوْ بحرًا.
وهذا منْ نعمةِ اللهِ أنْ جعَلَ علاماتٍ علوِيَّةً لا يُحْجَبُ دُونَها شيءٌ وهيَ النجومُ؛ لأنَّكَ في الليلِ لا تُشَاهِدُ جبالاً ولا أوديةً، وهذا منْ تسخيرِ اللهِ، قالَ تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } .
قولُهُ: (وكَرِهَ قتَادةُ تَعَلُّمَ مَنازِلِ القَمَرِ) اعلمْ أنَّ الكراهةَ في القرآنِ والسُّنَّةِ وكلامِ السلفِ المُتَقدِّمِينَ يُرادُ بها التحريمُ غالبًا.
وقولُهُ: (تَعَلُّمَ مَنازِلِ القَمَرِ) يَحْتَمِلُ أمريْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ المرادَ بهِ معرفةُ منزلةِ القمرِ،
فالليلةَ يكونُ في الشرطَيْنِ، ويكونُ في الإكْلِيلِ، فالمرادُ معرفةُ منازلِ القمرِ كُلَّ ليلةٍ؛ لأنَّهُ كلَّ ليلةٍ لهُ منزلةٌ حتَّى يُتِمَّ، وفي ولا يظْهَرُ في الغالبِ.
الثاني:
أنَّ المرادَ بهِ تعلَّمُ منازلِ النجومِ،
أيْ: يخرجُ النجمُ الفلانيُّ في اليومِ الفلانيِّ، وهذهِ النجومُ جَعَلَهَا اللهُ أَوْقَاتًا للفصولِ؛ لأنَّها نجمًا، منها يمانيَّةً، وشماليَّةً، فإذا حلَّت الشمسُ في المنازلِ الشماليَّةِ صارَ الحرُّ، وإذا حلَّتْ في الجنُوبيَّةِ صارَ البردُ؛ ولذلكَ كانَ منْ علامةِ دُنُوِّ البردِ خروجُ سُهَيْلٍ، وهوَ مِن النجومِ اليمانيَّةِ.
قولُهُ: (وَلَمْ يُرَخِّص ابنُ عُيَيْنَةَ) هوَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ المعروفُ، وهذا يُوَافِقُ قولَ قتادةَ بالكرَاهَةِ.
قولُهُ: (ذَكَرَهُ حَرْبٌ) منْ أصحابِ أحمدَ، روى عنهُ مسائلَ كثيرةً.
قولُهُ: (إسحاقُ) هوَ إسحاقُ بنُ رَاهُويَه.
والصحيحُ:
أنَّهُ لا بَأْسَ بتعلُّمِ منازلِ القمرِ؛ لأنَّهُ لا شِرْكَ فيها، إلاَّ إنْ تَعلُّمَها لِيُضِيفَ إليها نُزُولَ المطرِ وحصولَ البردِ، وأنَّها هيَ الْجَالِبَةُ لذلكَ، فهذا نوعٌ من الشِّركِ.
أمَّا مُجَرَّدُ معرفةِ الوقتِ بها، هلْ هوَ الربيعُ، أو الخريفُ، أو الشتاءُ؟
فهذا لا بأسَ بِهِ.
قولُهُ في حديثِ أبي موسى: (( الْجَنَّةَ ) )هيَ: الدارُ التي أعدَّها اللهُ لأوليائِهِ المُتَّقِينَ، وسُمِّيتْ بذلكَ لكَثْرةِ أشْجَارِها؛ لأنَّها تَجُنُّ مَنْ فيها، أيْ: تستُرُهُ.
قولُهُ: (( مُدْمِنُ الْخَمْرِ ) )هوَ: الذي يشْرَبُ الخمرَ كثيرًا، والخمرُ حَدَّهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ بِقَوْلِهِ: (( كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ) )ومعنى (أسْكَرَ) أيْ: غطَّى العقلَ، وليسَ كلُّ ما غطَّى العقلَ فهوَ خَمْرٌ، فَالْبَنْجُ مثلاً ليسَ بخَمْرٍ، وإذا شَرِبَ دُهْنًا فأُغْمِيَ عليهِ فليسَ ذلِكَ بخمرٍ، وإنَّما الخمرُ الذي يُغَطِّي العقلَ على وَجْهِ اللَّذَّةِ والطَّربِ، فَتَجِدُ الشاربَ يُحِسُّ أنَّهُ في منزلةٍ عظيمةٍ وسعادةٍ وما أشبهَ ذلكَ، قالَ الشَّاعِرُ:
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنا اللقاءُ
وقالَ حمزةُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكانَ قدْ سَكِرَ قَبْلَ تحريمِ الخمرِ: (وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عبيدُ أَبِي) فالذي يُغَطِّي العقلَ على سبيلِ اللَّذَّةِ مُحَرَّمٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ، ومَن استَحَلَّهُ فهوَ كافرٌ، إلاَّ إنْ كانَ ناشِئًا بباديةٍ بعيدةٍ، أوْ حديثَ عَهْدٍ بالإسلامِ ولا يعلمُ الحُكْمَ الشرعيَّ في ذلكَ، فإنَّهُ يُعَرَّفُ ولا يَكْفُرُ بمُجَرَّدِ إنكارِهِ تحرِيمَهُ.
قولُهُ: (( قَاطِعُ الرَّحِمِ ) )الرَّحِمُ هم القرابةُ، قالَ تعالى: { وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وليسَ كما يظُنُّهُ العامَّةُ أنَّهُم أقاربُ الزَّوْجَيْنِ؛ لأنَّ هذهِ تسميةٌ غيرُ شرعيَّةٍ، والشرعيَّةُ في أقاربِ الزوجِ أنْ يُسَمَّوْا أصهارًا.
ومعنى قاطعِ الرحمِ،
أيْ: لا يَصِلُهُ، والصِّلةُ جاءَتْ مُطْلَقَةً في الكتابِ والسُّنَّةِ، قالَ تعالى: { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } ومنهُ: الأرحامُ، وما جاءَ مُطْلَقًا غيرَ مُقَيَّدٍ فإنَّهُ يُتْبَعُ فيهِ العُرْفُ، كما قيلَ:
وكُلُّ مَا أَتَى ولمْ يَُدَّدِ بالشَّرْعِ كالحِرْزِ فَبِالْعُرْفِ احْدُدِ
فالصِّلَةُ في زَمَنِ الجوعِ والفقرِ أنْ يُعْطِيَهُمْ ويُلاحِظَهمْ بالْكِسْوَةِ والطعامِ دائمًا،
وفي زمنِ الغِنى لا يلزمُ ذلكَ.
وكذلكَ الأقاربُ ينقسمونَ إلى: قريبٍ وبعيدٍ،
فأقربُهم يجبُ لهُ مِن الصلةِ أكثرُ ممَّا يجبُ للأبعدِ.
ثم الأقاربُ ينقسمونَ إلى قسميْنِ منْ جهةٍ أخرى؛
قسمٌ من الأقاربِ يرى أنَّ لنَفْسِهِ حقًّا لا بُدَّ من القيامِ بهِ، ويُرِيدُ أنْ تَصِلَهُ دائمًا، وقسمٌ آخَرُ يُقَدِّرُ الظروفَ ويُنْزِلُ الأشياءَ منازِلَهَا، فهذا لهُ حُكْمٌ، وذلكَ لهُ حُكْمٌ.
والقطيعةُ: يُرْجَعُ فيها إلى العُرْفِ،
إلاَّ أنَّهُ يُسْتَثْنَى منْ ذلكَ مسألةٌ، وهيَ: ما لوْ كانَ العُرفُ عدمَ الصلةِ مُطْلَقًا، بأنْ كُنَّا في أُمَّةٍ تشَتَّتَتْ وتقَطَّعَتْ عُرَى صِلَتِهَا، كما يُعْرَفُ الآنَ في البلادِ الغَرْبِيَّةِ، فإنَّهُ لا يُعْمَلُ حينَئِذٍ بالْعُرْفِ، ونقولُ لا بُدَّ منْ صلةٍ، فإذا كانَ هناكَ صلةٌ في العُرْفِ اتَّبَعْنَاهَا، وإذا لمْ يكُنْ هناكَ صلةٌ فلا يُمْكِنُ أنْ نُعَطِّلَ هذهِ الشريعةَ التي أمرَ اللهُ بها ورسولُهُ.
والصلةُ ليسَ معناها أنْ تَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ؛ لأنَّ هذا مُكَافأةٌ وليْسَتْ صلةً؛ لأنَّ الإنسانَ يَصِلُ أبعدَ الناسِ عنهُ إذا وصَلَهُ، إنَّما الواصلُ كما قالَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ) )هذا هوَ الذي يُرِيدُ وَجْهَ اللهِ والدارَ الآخرةَ.
وهلْ صِلَةُ الرَّحِمِ حقٌّ للهِ أوْ للآدَمِيِّ؟
الظاهرُ أنَّها حقٌّ للآدميِّ، وهيَ حقٌّ للهِ باعتبارِ أنَّ اللهَ أمرَ بها.
قولُهُ:
(( وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ ) )هذا هوَ شاهدُ البابِ، ووَجْهُهُ أنَّ عِلْمَ التنجيمِ نوعٌ من السحرِ، فَمَنْ صدَّقَ بهِ فقدْ صدَّقَ بنوعٍ من السحرِ، فقدْ سَبَقَ أَنَّ (( مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ ) )والمُصَدِّقُ بهِ هوَ المصدِّقُ بما يُخبِرُ بهِ المُنَجِّمُونَ، فإذا قَالَ المنجِّمُ: سيحْدُثُ كذا وكذا وصدَّقَ بهِ، فإنهُ لا يدخلُ الجَنَّةَ؛ لأنَّهُ صَدَّقَ بعلمِ الغيبِ لغيرِ اللهِ، قالَ تعالى: { قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ } .
فإنْ قيلَ: لماذا لا يُجْعَلُ السحرُ هنا عامًّا ليشملَ التنْجِيمَ وغيرَ التنجيمِ؟
أُجيبُ:
أنَّ المُصَدِّقَ بما يُخبِرُهُ بهِ السحرةُ مِنْ عِلمِ الغيبِ يشملُهُ الوعيدُ هنا،
وأمَّا المصدِّقُ بأنَّ للسحرِ تأثيرًا فلا يلْحَقُهُ هذا الوعيدُ؛ إذْ لا شكَّ أنَّ للسحرِ تأثيرًا، لكنَّ تأثيرَهُ تَخْيِيلٌ، مثلَ: ما وقعَ منْ سَحَرَةِ فرعونَ حيثُ سَحَرُوا أعْيُنَ الناسِ حتَّى رَأَوا الحبالَ والْعِصِيَّ كأنَّها حَيَّاتٌ تَسْعَى، وإنْ كانَ لا حقيقةَ لِذَلِكَ، وقدْ يسْحَرُ الساحرُ شخصًا فيجعلُهُ يُحِبُّ فلانًا ويُبْغِضُ فلانًا، فهوَ مُؤَثِّرٌ، قالَ تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } فالتصديقُ بأثرِ السحرِ على هذا الوجهِ لا يَدْخُلُهُ الوعيدُ؛ لأنَّهُ تصديقٌ بأمرٍ واقعٍ.
أمَّا مَنْ صَدَّقَ بأنَّ السحرَ يُؤَثِّرُ في قلبِ الأعيانِ
بحيثُ يجعلُ الخشبَ ذهبًا أوْ نحوَ ذلكَ، فلا شكَّ في دُخُولِهِ في الوعيدِ؛ لأنَّ هذا لا يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: (( ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ) )هل المرادُ الحَصْرُ وأنَّ غيْرَهمْ يدْخُلُ الجنَّةَ؟
الجوابُ:
لا؛ لأنَّ هناكَ مَنْ لا يدْخُلُونَ الجنَّةَ سوى هؤلاءِ، فهذا الحديثُ لا يَدُلُّ على الحصرِ.
فيهِ مَسائِلُ:
الأُولَى:
(الحكمةُ في خَلْقِ النُّجومِ) .
وهيَ ثلاثٌ:
-أَنَّها زينةٌ للسماءِ.
-ورُجُومٌ للشياطينِ.
-وعلاماتٌ يُهْتَدَى بِها.
ورُبَّما يكونُ هناكَ حِكَمٌ أُخْرَى لا نعْلَمُها.
الثانيةُ: (الردُّ علَى مَنْ زَعَمَ غَيْرَ ذلِكَ)
لقولِ قتادةَ: (مَنْ تَأَوَّلَ فيها غيرَ ذلكَ أخْطَأَ وأضاعَ نصيبَهُ وتكلَّفَ ما لا عِلْمَ لهُ بهِ) .
ومرادُ قتادةَ في قوْلِهِ: (غيرَ ذلِكَ) ما زَعَمَهُ المُنَجِّمُونَ من الاستدلالِ بالأحوالِ الفلكيَّةِ على الحوادثِ الأرضيَّةِ، وأمَّا ما يُمْكِنُ أنْ يكُونَ فيها مِنْ أمورٍ حِسِّيَّةٍ سوى الثلاثِ السابقةِ فلا ضلالَ لمَنْ تَأَوَّلَهُ.
الثالثةُ:
(ذِكْرُ الخِلافِ في تَعَلُّمِ الْمَنازِلِ) سبقَ ذلكَ.
(12) الرابعةُ: (الوعيدُ فِيمَنْ صَدَّقَ بِشَيْءٍ مِن السِّحْرِ وَلَوْ عَرَفَ أَنَّهُ باطِلٌ) مَنْ صَدَّقَ بشيءٍ من التنجيمِ أوْ غيرِهِ بلسانِهِ ولو اعتقدَ بُطْلانَهُ بقَلْبِهِ، فإنَّ عليهِ هذا الوعيدَ، كيفَ يُصَدِّقُ وهوَ يعرفُ أنَّهُ باطلٌ؛ لأنَّهُ يُؤَدِّي إلى إغراءِ الناسِ بِهِ وبِتَعَلُّمِهِ وبِمُمَارَسَتِهِ.