فهرس الكتاب
الصفحة 24 من 93

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يُونُس:106،107] .

وَقَوْلِهِ:

{فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِليهِ تُرْجَعُونَ} [الْعَنْكَبُوت:17] .

وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُم عَن دُعَائِهِم غَافِلونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأَحْقَاف:5،6] .

وَقَوْلِهِ: {أمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ} [النَّمْل:62] .

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّهُ لاَ يُسْتَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللهِ ) ).

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

أَنَّ عَطْفَ الدُّعَاءِ عَلَى الاِسْتِغَاثَةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.

الثَّانِيَةُ:

تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} .

الثَّالِثَةُ:

أَنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ.

الرَّابِعَةُ:

أَنَّ أَصْلَحَ النَّاسِ لَوْ فَعَلَهُ إِرْضَاءً لِغَيْرِهِ صَارَ مِنَ الظَّالِمِينَ.

الْخَامِسَةُ:

تَفْسِيرُ الآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا.

السَّادِسَةُ:

كَوْنُ ذَلِكَ لاَ يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا مَعَ كَوْنِهِ كُفْرًا.

السَّابِعَةُ:

تَفْسِيرُ الآيَةِ الثَّالِثَةِ.

الثَّامِنَةُ:

أَنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ لاَ يَنْبَغِي إِلاَّ مِنَ اللهِ كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ لاَ تُطْلَبُ إِلاَّ مِنْهُ.

التَّاسِعَةُ:

تَفْسِيرُ الآيَةِ الرَّابِعَةِ.

الْعَاشِرَةُ:

أَنَّهُ لاَ أَضَلَّ مِمَّنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:

أَنَّهُ غَافِلٌ عَنْ دُعَاءِ الدَّاعِي لاَ يَدْرِي عَنْهُ.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:

أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ سَبَبٌ لِبُغْضِ الْمَدْعُو لِلدَّاعِي وَعَدَاوَتِهِ لَهُ.

الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:

تَسْمِيَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ عِبَادَةً لِلْمَدْعُو.

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:كُفْرُ الْمَدْعُو بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ.

الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:

أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ سَبَبُ كَوْنِهِ أَضَلَّ النَّاسِ.

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:

تَفْسِيرُ الآيَةِ الْخَامِسَةِ.

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:

الأَمْرُ الْعَجِيبُ، وَهُوَ إِقْرَارُ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ أَنَّهُ لاَ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِلاَّ اللهُ، وَلأَِجْلِ هَذَا يَدْعُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:

حِمَايَةُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم حِمَى التَّوْحِيدِ وَالتَّأَدُّبُ مَعَ اللهِ.

قولُهُ: (مِن الشِّركِ) (مِن) للتَّبْعِيضِ، فيَدُلُّ على أنَّ الشِّركَ ليسَ مُخْتَصًّا بهذا الأمرِ.

والاسْتغاثةُ:

طَلَبُ الغَوْثِ

، وهوَ إزالةُ الشِّدَّةِ، قال ابن فارس: (الغوث: كلمة واحدة، من الإغاثة، وهي: طلب النصرة والإعانة عند الشدة) .

وكَلاَمُ المُؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ لَيْسَ على إِطْلاَقِهِ، بلْ يُقَيَّدُ بِمَا لا يَقْدِرُ عليهِ المُسْتَغَاثُ بهِ، إِمَّا لكَوْنِهِ مَيِّتًا أوْ غائبًا، أوْ يكونُ الشيءُ مِمَّا لا يَقْدِرُ على إزالَتِهِ إلاَّ اللهُ تعالَى.

فَلَو اسْتَغَاثَ بِمَيِّتٍ ليُدَافِعَ عنهُ،

أوْ بغائِبٍ أوْ بِحَيٍّ حَاضِرٍ ليُنْزِلَ المَطَرَ، فهذا كُلُّهُ مِن الشرْكِ.

ولو اسْتَغَاثَ بِحَيٍّ حَاضِرٍ فيما يَقْدِرُ عليهِ كانَ جائزًا؛ قالَ اللهُ تعالَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} .

وإذا طَلَبْتَ مِنْ أحَدٍ الغَوْثَ، وهوَ قادِرٌ عليهِ، يَجِبُ عليكَ تَصْحِيحًا لتَوْحيدِكَ أنْ تَعْتَقِدَ أنَّهُ مُجَرَّدُ سببٍ، وأنَّهُ لا تَأْثيرَ لهُ بذَاتِهِ في إِزَالَةِ الشدَّةِ؛ لأنَّكَ رُبَّما تَعْتَمِدُ عليهِ وتَنْسَى خَالِقَ السبَبِ، وهذا قادِحٌ في كَمالِ التوْحيدِ.

قولُهُ: (أَوْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ) مَعْطُوفٌ عَلَى قولِهِ: (أَنْ يَسْتَغِيثَ) فيكونُ المَعْنَى: مِن الشِّرْكِ أنْ يَدْعُوَ غَيْرَ اللهِ؛ وذلكَ لأنَّ الدُّعاءَ مِن العبادَةِ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} عبادَتِي أيْ: دُعَائِي؛ فَسَمَّى اللهُ الدعاءَ عبادَةً، وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ ) ).

ومُرَادُ المُؤَلِّفِ بقَوْلِهِ: (أَوْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ) دُعَاءُ العبادةِ، أوْ دُعَاءُ المسألةِ فيما لا يُمْكِنُ للمَسْئُولِ إجَابَتُهُ.

قولُهُ: (أنْ يَسْتَغِيثَ) (أنْ) ومَا دَخَلَتْ عَلَيهِ في تأويلِ مَصْدرٍ مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، وخَبَرُها مُقَدَّمٌ، وهوَ قولُهُ: (مِن الشِّرْكِ) والتقدِيرُ: مِن الشرْكِ الاسْتغاثَةُ بغيرِ اللهِ.

وقولُهُ: (أوْ يَدْعُوَ) هذا مِنْ بابِ عَطْفِ العامِّ عَلَى الخاصِّ؛ لأنَّ الاسْتِغاثَةَ دُعَاءٌ بإزالةِ الشِّدَّةِ فقطْ، والدُّعَاءُ عامٌّ لكونِهِ لِجَلْبِ مَنْفعةٍ أوْ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ.

قولُهُ:

{وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ} ظاهرُ سياقِ الآيَةِ أنَّ الخِطَابَ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، سَواءٌ كانَ خاصًّا بهِ، أوْ عامًّا لهُ ولغيرِهِ.

فإنَّ بعضَ العلماءِ قالَ: (لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ للرسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِيلُ أنْ يَقَعَ منهُ ذلكَ، والآيَةُ على تقديرِ قُلْ، وهذا ضعيفٌ جدًّا، وإخراجٌ للآياتِ عنْ سياقِها) .

والصوابُ:

أنَّهُ إمَّا خاصٌّ بالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، والحُكْمُ لَهُ ولغَيْرِهِ، وإمَّا عامٌّ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ، ويَدْخُلُ فيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

وكونُهُ يُوَجَّهُ إليهِ مثلُ هذا الخطابِ لا يَقْتَضِي أنْ يكونَ مُمْكِنًا منهُ، قالَ تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

فَالْخِطَابُ لهُ ولجَمِيعِ الرُّسُلِ،

ولا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ منهُ باعتبارِ حَالِهِ لاَ باعْتبارِ كونِهِ إنسانًا وبَشَرًا.

والحِكْمَةُ مِن النهْيِ أنْ يكونَ غيرُهُ مُتَأَسِّيًا بِهِ.

فإذا كانَ النهيُ مُوَجَّهًا إلى مَنْ لاَ يُمْكِنُ منهُ باعتبارِ حَالِهِ، فهُو إلى مَنْ يُمْكِنُ منهُ مِنْ بابِ أَوْلَى.

وقولُهُ: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ} الدعاءُ طَلَبُ ما يَنْفَعُ، أوْ طَلَبُ دَفعِ ما يَضُرُّ، وهوَ نوعانِ كما قالَ أهلُ العلْمِ:

الأَوَّلُ:

دُعَاءُ عبادةٍ

وهوَ أنْ يكونَ قائمًا بأَمْرِ اللهِ؛

(كالمُصَلِّي، والصَّائمِ، والمُزَكِّي) يُرِيدُ بذلكَ الثَّوابَ والنَّجاةَ مِن العِقَاب، ففِعْلُهُ مُتَضَمِّنٌ للدُّعَاءِ بلسانِ الحالِ، وقدْ يَصْحَبُ فعلَهُ هذا دُعَاءٌ بلسانِ المقالِ.

الثاني:

دُعَاءُ مسألةٍ

، وهوَ طلبُ ما يَنْفَعُ، أوْ طَلَبُ دَفْعِ ما يَضُرُّهُ.

فالأوَّلُ:

لا يَجُوزُ صَرْفُهُ لغَيْرِ اللهِ.

والثاني:

فيهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ.

قال

شيخ الإسلام (15/11/12) (الدعاء: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان.

فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ويدفعه، وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود، لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر.

وهذا كثير في ا لقرآن، يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر، فهو يدعو للنفع والضر دعاءَ المسألة، ويدعوا خوفاً ورجاءً دعاء العبادة.

فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة).

قولُهُ:

{مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} ، {ما لا يَنْفَعُكَ} أيْ: ما لا يَجْلِبُ لكَ النَّفْعَ لوْ عبَدْتَهُ.

{ولاَ يَضُرُّكَ}

قيلَ: لا يَدْفَعُ عَنْكَ الضُّرَّ.

وقيلَ:

لوْ تَرَكْتَ عبادَتَهُ لاَ يَضُرُّكَ؛

لأنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ الانْتقامَ. وهوَ الظاهِرُ مِن اللفظِ.

وقولُهُ: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} أيْ: لأنَّهُ لا يَنْفَعُكَ ولا يَضُرُّكَ.

وهذا القيدُ ليسَ شرطًا بِحَيْثُ يكونُ لهُ مفهومٌ، فيكونُ لكَ أنْ تَدْعُوَ مَنْ يَنْفَعُكَ ويَضُرُّكَ.

بلْ هوَ لبيانِ الواقعِ؛ لأنَّ المَدْعُوَّ مِنْ دونِ اللهِ لاَ يَحْصُلُ منهُ نَفْعٌ ولاَ ضَرَرٌ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .

فَعَلَى هذَا لا يَكُونُ هذا القيدُ شَرْطًا، وهذِهِ يُسَمِّيها بعضُ الناسِ صفةً كاشفةً.

قولُهُ: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أيْ: إنْ دَعَوْتَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ ولا يَضُرُّكَ، والخطابُ للرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

وَ {إِذًا} أيْ:حالَ فِعْلِكَ مِن الظالمينَ، وهوَ قيدٌ؛ لأنَّ {إِذًا} للظَّرْفِ الحاضرِ؛ أيْ: فَإِنَّكَ حالَ فِعْلِهِ مِن الظالمينَ، لكنْ قدْ تَتُوبُ منهُ فيَزُولُ عنكَ وصْفُ الظُّلْمِ؛ فالإنسانُ قبلَ الفعْلِ ليسَ بظالِمٍ، وبعدَ التوبَةِ ليسَ بظالِمٍ، لكنْ حينَ فِعْلِ المعصيَةِ يكونُ ظالمًا، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) )فنَفَى الإيمانَ عنهُ حالَ الفعْلِ.

ونَوْعُ الظلمِ هنا ظُلْمُ شِرْكٍ، قالَ اللهُ تعالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وعبَّرَ اللهُ بقولِهِ مِن الظالمينَ، ولَمْ يَقُلْ مِن المُشْرِكِينَ؛ ليُبَيِّنَ أنَّ الشركَ ظلمٌ؛ فكَوْنَ الداعِي لغيرِ اللهِ مشرِكًا أمْرٌ بيِّنٌ، لكنْ كونُهُ ظالِمًا قدْ لا يكونُ بيِّنًا مِن الآيَةِ.

قولُهُ:

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ} أيْ: يُصِبْكَ بِضُرٍّ؛ كالمَرَضِ والفَقْرِ ونَحْوِهِ.

قولُهُ: {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} أيْ: لا أحَدٌ يَكْشِفُهُ أبدًا إذا مَسَّكَ اللهُ بضُرٍّ إلاَّ اللهُ، وهذا كقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ ) ).

قولُهُ: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} هُنَا قالَ: {يُرِدْكَ} وفي الضُّرِّ قالَ: {يَمْسَسْكَ} فهَلْ هذا مِنْ بابِ تَنْوِيعِ العبارةِ، أوْ هناكَ فَرْقٌ مَعْنَوِيٌّ؟

الجوابُ:

هناكَ فَرْقٌ مَعْنَوِيٌّ،

وهوَ أنَّ الأشياءَ المكروهةَ لا تُنْسَبُ إلى إرادةِ اللهِ، بَلْ تُنْسَبُ إلى فِعْلِهِ؛ أيْ: مفعولِهِ.

فالمَسُّ مِنْ فعْلِ اللهِ، والضُّرُّ مِنْ مَفْعُولاَتِهِ، فاللهُ لاَ يُرِيدُ الضُّرَّ لذاتِهِ، بلْ يُرِيدُهُ لغيرِهِ لِمَا يَتَرتَّبُ عَلَيهِ مِن الخيرِ، ولِمَا وراءَ ذلكَ مِن الحِكَمِ البالغةِ.

أمَّا الخيرُ فهوَ مُرَادٌ للهِ لذاتِهِ، ومفعولٌ لهُ.

ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما في سورةِ الجنِّ: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدَاً} .

فإذا أُصِيبَ الإنسانُ بمرضٍ فاللهُ لم يُرِدْ بهِ الضَّرَرَ، بلْ أرادَ المرضَ وهوَ يَضُرُّهُ، لكنْ لَمْ يُرِد ضَرَرَهُ بلْ أرادَ خيرًا مِنْ وراءِ ذلكَ.

وقدْ تَكُونُ الحِكْمَةُ ظاهرةً في نفسِ المُصابِ، وقدْ تَكُونُ ظاهرةً في غَيْرِهِ، كَمَا قالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فالمهم

وليسَ لنا أنْ نَتَحَجَّرَ حِكْمةَ اللهِ؛ لأنَّها أوْسَعُ مِنْ عُقُولِنا، لكنَّنَا نَعلَمُ عِلْمَ اليقينِ أنَّ اللهَ لا يُرِيدُ الضَّرَرَ لأنَّهُ ضَرَرٌ، فالضَّرَرُ عندَ اللهِ ليسَ مُرَادًا لذاتِهِ، بلْ لغَيْرِهِ، ولا يَتَرَتَّبُ عليهِ إلاَّ خيرٌ.

أمَّا الخيرُ فهوَ مُرَادٌ لذاتِهِ، ومفعولٌ لهُ، واللهُ أعلَمُ بما أرادَ بكَلاَمِهِ، لكنْ هذا الذي يَتَبَيَّنُ لي.

قولُهُ: {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} أيْ: لا يَسْتَطِيعُ أحَدٌ أنْ يَرُدَّ فَضْلَ اللهِ أبدًا، ولو اجْتَمَعَت الأُمَّةُ على ذلكَ، وفي الحديثِ: (( اللهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ) )فنَعْتَمِدُ عَلَى اللهِ في جَلْبِ المَنافِعِ، ودَفْعِ المضارِّ، وبقاءِ ما أنعمَ علينا بهِ.

ونَعْلَمُ أنَّ الأمَّةَ مهما بَلَغَتْ مِن المكرِ والكَيْدِ والحِيَلِ لِتَمْنَعَ فَضْلَ اللهِ فإنَّها لا تَسْتَطِيعُ.

قولُهُ: {يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} الضميرُ إمَّا أنْ يَعودَ إلى الفَضْلِ؛ لأنَّهُ أقربُ، أوْ إلى الخَيْرِ؛ لأنَّهُ هوَ الذِي يُتَحَدَّثُ عنهُ، ولا يَخْتَلِفُ المَعْنَى بذلكَ.

قولُهُ: {مَنْ يَشَاءُ} كُلُّ فِعْلٍ مُقَيَّدٍ بالمَشِيئةِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بالحِكْمَةِ؛ لأنَّ مَشِيئةَ اللهِ ليستْ مُجَرَّدَةً، يَفْعَلُ ما يَشاءُ لِمُجَرَّدِ أنَّهُ يَفْعَلُهُ فقطْ؛ فمِنْ صفاتِ اللهِ الحِكْمَةَ، ومِنْ أسْمائِهِ الحَكِيمَ، قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} .

قولُهُ: {مِنْ عِبَادِهِ} العُبُودِيَّةُ هنا عامَّةٌ؛ لأنَّ قولَهُ: {بِخَيْرٍ} يَشْمَلُ خَيْرَ الدُّنيا والآخِرَةِ. وخَيْرُ الدُّنيا يُصِيبُ الكُفَّارَ.

قولُهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أيْ: ذُو المَغْفِرةِ.

والمَغْفِرةُ

سَتْرُ الذَّنْبِ والتَّجاوُزُ عنهُ

، مَأْخُوذَةٌ مِن الْمِغْفَرِ، وهوَ ما يُتَّقَى بهِ السِّهامُ، والْمِغْفَرُ فيهِ سَتْرٌ ووِقايَةٌ.

والرَّحيمُ

: أَيْ: ذُو الرحمةِ، وهيَ صِفَةٌ تليقُ باللهِ عزَّ وجَلَّ، تَقْتَضِي الإحسانَ والإنعامَ.

والشاهدُ هو قولُهُ: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} في الآيَةِ الأُولَى.

فقدْ نبَّهَ اللهُ نَبِيَّهُ أنَّ مَنْ يَدْعُو أحَدًا مِنْ دونِ اللهِ؛ أيْ: مِنْ سِوَاهُ، لا يَنْفَعُهُ ولا يَضُرُّهُ.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام