فهرس الكتاب
الصفحة 73 من 93

عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ: أَنَّهُ كَانَ يُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ) ).

فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ.

فَقَالَ: (( مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ ) )

قُلْتُ: شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللهِ.

قَالَ: (( فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ ) )

قُلْتُ: شُرَيْحٌ.

قَالَ: (( فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ) )رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

احْتِرَامُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَوْ لَمْ يُقْصَدْ مَعْنَاهُ.

الثَّانِيَةُ:

تَغْيِيرُ الاِسْمِ لأَِجْلِ ذَلِكَ.

الثَّالِثَةُ:

اخْتِيَارُ أَكْبَرِ الأَبْنَاءِ لِلْكُنْيَةِ.

قولُهُ: (بابُ احترامِ أَسماءِ اللَّهِ) أيْ: وجوبِ احترامِ أسماءِ اللَّهِ؛ لأنَّ احترامَهَا احترامٌ للَّهِ عزَّ وجلَّ، ومنْ تعظيمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فلا يُسمَّى أحدٌ باسمٍ مختصٍّ باللَّهِ.

وأسماءُ اللَّهِ تنقسمُ إلَى قسمينِ:

الأوَّلُ:

ما لا يصحُّ إلَّا للَّهِ فهذا لا يُسمَّى بهِ غيرُهُ، وإنْ سُمِّيَ وَجَبَ تغييرُهُ، مثلُ: اللَّهِ، الرَّحمنِ، ربِّ العالمينَ، وما أشبهَ ذلكَ.

الثَّاني:

ما يصحُّ أنْ يوصفَ بهِ غيرُ اللَّهِ مثلَ: الرَّحيمِ، والسَّميعِ، والبصيرِ، فإن لُوحِظَت الصِّفةُ مُنِعَ من التَّسَمِّي بهِ، وإن لم تُلاحَظ الصِّفةُ جاز التَّسمِّي بهِ علَى أنَّهُ عَلَمٌ مَحْضٌ.

قولُهُ: (عَنْ أبي شُرَيْحٍ) هوَ هانئُ بنُ يزيدَ الكِنْديُّ، جاءَ وافدًا إلَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ معَ قومِهِ.

وقولُهُ: (يُكَنَّى أبَا الحَكَمِ) أيْ: يُنَادَى بهِ، والكُنْيَةُ: مَا صُدِّرَ بأبٍ، أوْ أمٍّ، أوْ أخٍ، أوْ عمٍّ، أوْ خالٍ، وتكونُ للمدحِ كمَا في هذا الحديثِ، وتكونُ للذمِّ كأبي جَهْلٍ، وتكونُ لمصاحبةِ الشيءِ وملازمتِهِ كأبي هريرةَ، وتكونُ لمجرَّدِ العَلَميَّةِ كأبي بكرٍ رضِيَ اللَّهُ عنه، وأبي العبَّاسِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رحِمَهُ اللَّهُ؛ لأنَّهُ ليسَ لَهُ وَلَدٌ.

قولُهُ: (إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وإِلَيْهِ الحُكْمُ ) هوَ الْحَكَمُ: أي المستحِقُّ أن يكونَ حاكمًا علَى عبادِهِ، وحاكمٌ بالفعلِ يدلُّ لهُ قولُهُ: (وإِلَيْهِ الحُكْمُ) .

وقولُهُ: (وإِلَيْهِ الحُكمُ) الخبرُ فيهِ جارٌّ ومجرورٌ مُقدَّمٌ، وتقديمُ الخبرِ يفيد الحصرَ، وعلَى هذا يكونُ الحكمُ خاصًّا باللَّهِ سبحانَهُ.

وحُكْمُ اللَّهِ ينقسمُ إلَى قسمينِ:

الأوَّلُ:

كونيٌّ، وهذا لا رادَّ لهُ، فلا يستطيعُ أحدٌ أن يَرُدَّهُ، ومنهُ قولُهُ تعالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} .

الثَّاني:

شرعيٌّ، وينقسمُ النَّاسُ فيهِ إلَى قسمينِ:

مؤمنٍ وكافرٍ،

فمَنْ رَضِيَهُ وحكَمَ بهِ فهوَ مؤمنٌ، ومَنْ لَمْ يَرْضَ بهِ، ولم يَحْكُمْ بهِ فهوَ كافرٌ، ومنهُ قولُهُ تعالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} .

وأمَّا قولُهُ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} وقولُهُ تعالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فهوَ يشملُ الكونيَّوالشَّرعيَّ، وإنْ كان ظاهرُ الآيَةِ الثَّانيَةِ أنَّ المرادَ الحكمُ الشَّرعيُّ؛ لأنَّهُ في سياقِ الحكمِ الشَّرعيِّ، والشَّرعيُّ يكونُ تابعًا للمحبَّةِ والرِّضَا، والكراهةِ والسُّخْطِ، والكونيُّ عامٌّ في كلِّ شيءٍ.

والحُكْمَ كله للَّهِ؛ لقولِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (( وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ) ).

أمَّا الكونيُّ:

فلا نزاعَ فيهِ بينَ أحدٍ من الخلقِ، ولا يُعارِضُ اللَّهَ أحدٌ في أحكامِهِ الكونيَّةِ.

وأمَّا الشَّرعيُّ:

فهوَ مَحَكُّ الفتنةِ والامتحانِ والاختبارِ، فمَنْ شرَّعَ للنَّاسِ شرعًا سوَى شرعِ اللَّهِ، ورأَى أنَّهُ أحسنُ منْ شرعِ اللَّهِ وأنفعُ للعبادِ، أوْ أنَّهُ مُساوٍ لشرعِ اللَّهِ، أوْ أنَّهُ يجوزُ تَرْكُ شرعِ اللَّهِ إليهِ فإنَّهُ كافرٌ؛ لأنَّهُ جعلَ نفسَهُ نِدًّا للَّهِ عزَّ وجلَّ، سواءٌ في العباداتِ أو المعاملاتِ، والدَّليلُ علَى ذلكَ قولُهُ تعالَى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فدلَّت الآيَةُ علَى أنَّهُ لا أحدَ أحسنُ منْ حكمِ اللَّهِ، ولا مُساوٍ لحكمِ اللَّهِ؛ لأنَّ {أحسنَ} اسمُ تفضيلٍ: معناهُ لا يوجدُ شيءٌ في درجتِهِ، ومَنْ زعمَ ذلكَ فقدْ كذَّبَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قالَ تعالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .

وهذا دليلٌ علَى أنَّهُ لا يجوزُ العُدولُ عنْ شرعِ اللَّهِ إلَى غيرِهِ وأنَّهُ كفرٌ.

فإنْ قيلَ: قالَ اللَّهُ تعالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .

قلنا:

قال اللَّهُ تعالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (.6) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} وهذا دليلٌ علَى كفرِهم؛ لأنَّهُ قالَ: {يَزْعُمُونَ أنَّهُم آمَنُوا} وهذا إنكارٌ لإيمانِهِم، فظاهرُ الآيَةِ أنَّهُم يَزْعُمُون بلا صدقٍ ولا حقٍّ، فقولُهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (( وإِلَيْهِ الحُكْمُ ) )يدلُّ علَى أنَّ مَنْ جعلَ الحكمَ لغيرِ اللَّهِ فقدْ أشْرَكَ.

فائدةٌ:

يجبُ علَى طالبِ العلمِ أن يعرفَ الفرقَ بينَ التَّشريعِ الَّذي يُجعَلُ نظامًا يُمْشَى عليهِ ويُسْتَبْدَلُ بهِ القرآنُ، وبينَ أن يُحْكَمَ في قضيَّةٍ معيَّنةٍ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ، فهذا قدْ يكونُ كفرًا، أوْ فسقًا، أوْ ظلمًا.

-فيكونُ كفرًا:

إذا اعتقدَ أنَّهُ أحسنُ منْ حكمِ الشَّرعِ، أوْ مماثلٌ لهُ.

-ويكونُ فسقًا:

إذا كان لهوًى في نَفْسِ الحاكمِ.

-ويكونُ ظلمًا:

إذا أرادَ مَضَرَّةَ الْمحكُومِ عليهِ،

وظهورُ الظُّلمِ في هذه أبينُ منْ ظهورِهِ في الثَّانيَةِ، وظهورُ الفسقِ في الثَّانيَةِ أَبْيَنُ منْ ظهورِهِ في الثَّالثةِ.

وفي الحديثِ دليلٌ علَى أنَّ منْ أسمائِهِ تعالَى: (الحَكَمَ) .

وأمَّا بالنِّسبةِ للعَدْلِ فقدْ وردَ عنْ بعضِ الصَّحابةِ أنَّهُ قال:

(إنَّ اللَّهَ حَكَمٌ عَدْلٌ) ولا أَعْرِفُ فيهِ حديثًا مرفوعًا، ولكنَّ قولَهُ تعالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} لا شكَّ أنَّهُ متضمِّنٌ للعدلِ، بلْ هوَ متضمِّنٌ للعدلِ وزيادةٍ.

قولُهُ: (( فقال: إنَّ قَوْمي إِذا اخْتَلَفوا فِي شَيءٍ أَتَوْني ) )هذا بيانٌ لسببِ تسميتِهِ بأبي الحَكَمِ.

قولُهُ: (( ما أَحْسَنَ هَذا ) )الإشارةُ تعودُ إلَى إصلاحِهِ بينَ قومِهِ، لا إلَى تَسمِيَتِهِ بهذا الاسمِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ غيَّرَهُ.

قولُهُ: (( شُرَيْحٌ، ومُسْلِمٌ، وعَبْدُ اللَّهِ ) )الظَّاهرُ أنَّهُ ليسَ لهُ إلَّا الثَّلاثةُ؛ لأنَّ الولدَ في اللغةِ العربيَّةِ يشملُ الذَّكرَ والأنثَى، فلوْ كان عندَهُ بناتٌ لَعَدَّهُنَّ.

قولُهُ: (( فَأَنْتَ أبو شُريْحٍ ) )غيَّرَهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لأمرينِ:

الأوَّلُ:

أنَّ الحَكَمَ هوَ اللَّهُ، فإذا قيل: يا أبا الحكمِ، كأنَّهُ قيل: يا أبا اللَّهِ.

الثَّاني:

أنَّ هذا الاسمَ الَّذي جُعِلَ كنيَةً لهذا الرَّجلِ لُوحِظَ فيهِ معنَى الصِّفةِ، وهيَ الحُكْمُ، فصار بذلكَ مطابقًا لاسمِ اللَّهِ، وليسَ لمجرَّدِ العَلَمِيَّةِ الْمَحضَةِ، بلْ للعَلَمِيَّةِ الْمُتضَمِّنةِ للمعنَى، وبهذا يكونُ مشارِكًا للَّهِ سبحانَهُ وتعالَى؛ ولهذا كنَّاهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بما ينبغي أن يُكَنَّى بهِ.

فيهِ مسائِلُ:

الأولَى:

(( احْتِرامُ أَسماءِ اللَّهِ وصِفاتِهِ، وَلَوْ لَمْ يُقْصَدْ مَعْناهُ ) )قولُهُ: (وَلَوْ لَمْ يُقصَدْ مَعْناهُ) هذا في النَّفسِ منهُ شيءٌ؛ لأنَّهُ إذا لم يُقصَدْ معناهُ فهوَ جائزٌ، إلَّا إذا سُمِّيَ بما لا يصحُّ إلَّا للَّهِ مثلُ: اللَّهِ، الرَّحمنِ، ربِّ العالمينَ، وما أشبهَهُ، فهذه لا تُطلَقُ إلَّا علَى اللَّهِ مهما كان، وأمَّا ما لا يختصُّ باللَّهِ فإنَّهُ يُسمَّى بهِ غيرُ اللَّهِ إذا لم يُلاحَظْ معنَى الصِّفةِ، بلْ كان المقصودُ مجرَّدَ العَلَميَّةِ فقطْ؛ لأنَّهُ لا يكونُ مطابقًا لاسمِ اللَّهِ، ولذلكَ كان في الصَّحابةِ مَنِ اسمُهُ (الْحَكَمُ) ولم يغيِّرْهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لأنَّهُ لَم يَقْصِدْ إلَّا العَلميَّةَ، وفي الصَّحابةِ من اسمُهُ (حَكيمٌ) وأقَرَّهُ النبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ.

فالَّذي يُحتَرَمُ منْ أسمائِهِ تعالَى ما يختصُّ بهِ، أوْ ما يُقْصَدُ بهِ مُلاحظةُ الصِّفةِ.

الثَّانيَةُ: (( تغييرُ الاسمِ لأجلِ ذلكَ ) )وقدْ سبقَ الكلامُ عليهِ.

الثَّالثةُ: (( اختيارُ أكبرِ الأبناءِ للكُنيَةِ ) )تُؤْخَذُ منْ سؤالِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَا أَكْبَرُ وَلَدِكَ؟ ) ).

قالَ: شُرَيْحٌ.

قالَ: (( فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ) ).

ولا يؤخذُ من الحديثِ استحبابُ التَّكنِّي؛

لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أرادَ أنْ يُغيِّرَ كنيتَهُ إلَى كنيَةٍ مُباحةٍ، ولم يأمرْهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن يُكَنِّيَ ابْتداءً.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام