بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَواتُ مَطْوِّيَاتٌ بِيَمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمَرُ:67] .
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:(يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (( وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا اللهُ ) ).
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (( يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ ) )أَخْرَجَاهُ.
وَلِمُسْلِمٍ عَن ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: (( يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذْهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبْعَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ) ).
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (( مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ إِلاَّ كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ ) ).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ ) ).
وَقَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (( مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ) ).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زَرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: وَلَهُ طُرُقٌ.
وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟ ) )، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (( بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ ) ).
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى:
تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
الثَّانِيَةُ:
أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ وَأَمْثَالَهَا بَاقِيَةٌ عِنْدَ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهَا.
الثَّالِثَةُ:
أَنَّ الْحَبْرَ لَمَّا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَهُ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَقْرِيرِ ذَلِكَ.
الرَّابِعَةُ:
وُقُوعُ الضَّحِكِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ الْحَبْرُ هَذَا الْعِلْمَ الْعَظِيمَ.
الْخَامِسَةُ:
التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى وَالأَرَضِينَ فِي الأُخْرَى.
السَّادِسَةُ:
التَّصْرِيحُ بِتَسْمِيَتِهَا الشِّمَالَ.
السَّابِعَةُ:
ذِكْرُ الْجَبَّارِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ عِنْدَ ذَلِكَ.
الثَّامِنَةُ:
قَوْلُهُ: كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ.
التَّاسِعَةُ:
عِظَمُ الْكُرْسِيِّ بِالنَّسْبَةِ إِلَى السَّمَاءِ.
الْعَاشِرَةُ:
عِظَمُ الْعَرْشِ بِالنَّسْبَةِ إِلَى الْكُرْسِيِّ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
أَنَّ الْعَرْشَ غَيْرُ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:
كَمْ بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:
كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
كَمْ بَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:
أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:
أَنَّ اللهَ فَوْقَ الْعَرْشِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:
كِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مِائَةُ سَنَةٍ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ:
أَنَّ الْبَحْرَ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ أَسْفَلُهُ وَأَعْلاَهُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: (وَمَا قَدَرُوا) الضَّميرُ يعودُ على المشركينَ، و (قَدَرُوا) عظَّمُوا، أيْ: ما عظَّمُوا اللهَ حقَّ تعظيمِهِ؛ حيثُ أشْرَكُوا بهِ ما كانَ منْ مخلوقاتِهِ.
قولُهُ: (وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يُحْتَمَلُ أن تكونَ الواوُ للحالِ، أيْ: ما قدَرُوا اللهَ حقَّ قدْرِهِ في هذهِ الحالِ.
ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ للاستئنافِ لبيانِ عظمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وهذا أقْوَى؛ لأنَّهُ يَعُمُّ هذهِ الحالَ وغيرَها.
والْقَبْضَةُ هيَ ما يُقْبَضُ باليدِ، وليسَ المرادُ بها الْمِلْكَ كما قيلَ. نَعَمْ لوْ قالَ: والأرضُ في قَبْضَتِهِ، لكانَ تفسيرُهَا بالْمِلْكِ مُحْتَمَلاً.
قولُهُ: (جَمِيعًا) حالٌ مِن (الأرضُ) فيشملُ بحارَهَا وأنهارَهَا وأشجارَهَا وكلَّ ما فيها، الأرضُ كلُّها جميعًا قَبْضَتُهُ يومَ القيامةِ، والسَّماواتُ على عِظَمِهَا وَسَعَتِها مَطْوِيَّاتٌ بيمينِهِ.
قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ:
{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } .
قولُهُ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} هذا تنزيهٌ لهُ عنْ كلِّ نقصٍ وعَيْبٍ، وممَّا يُنَزَّهُ عنهُ هذهِ الأندادُ؛ ولهذا قالَ: {وَتَعَالَى} أيْ: ترفَّعَ، {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أيْ: عنْ كلِّ شركٍ يُشْرِكُونَهُ بهِ، سواءٌ جعلوا الخالِقَ كالمخلوقِ أو العكسَ.
قولُهُ: (حَبْرٌ) الحَبْرُ: هوَ العالِمُ الكثيرُ العِلْمِ، والحَبرُ يُشَابِهُ الْبَحْرَ في اشتقاقِ الحُرُوفِ، ولهذا كان العالِمُ أحيانًا يُسمَّى بالحَبْرِ وأحيانًا بالبَحْرِ.
قولُهُ: (إنَّا نَجِدُ) أيْ: في التَّوراةِ.
قولُهُ: (فَضَحِكَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ) ولولا ما بعْدَها لاحْتَمَلَتْ أنْ تكونَ إنكارًا؛ لأنَّ مَنْ حدَّثَكَ بحديثٍ لا تَطْمَئِنُّ إليهِ ضَحِكْتَ منهُ، لكنَّهُ قالَ:
(تَصْدِيقًا لقَوْلِ الْحَبْرِ) فكانَتْ إقرارًا لا غيرُ، ويدلُّ لذلكَ قولُهُ: ثُمَّ قرأَ: { وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ } الآيةَ، فهذا يدلُّ على أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أقرَّهُ واستشهدَ لقولِهِ بآيةٍ منْ كتابِ اللهِ، فَضَحِكُهُ واستشهادُهُ تقريرٌ لقولِ الحبْرِ، وسببُ الضَّحكِ هوَ سُرُورُهُ حيثُ جاءَ في القرآنِ ما يُصَدِّقُ ما وَجَدَهُ هذا الحَبْرُ في كُتُبِهِ؛ لأنَّهُ لا شكَّ أنَّهُ إذا جاءَ مَا يُصَدِّقُ القرآنَ فإنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ سوفَ يُسَرُّ بهِ، وإنْ كانَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ يَعْلَمُ علمَ اليقينِ أنَّ القرآنَ منْ عِنْدِ اللهِ، لكنْ تَضَافُرُ البيِّناتِ مِمَّا يُقَوِّي الشَّيءَ.
قولُهُ: (إِصْبُعٍ) واحدةُ الأصابعِ، وهيَ مُثَلَّثَةُ الأوَّلِ والثَّالثِ، ففيها تِسْعُ لُغَاتٍ، والعاشرُ أُصْبُوعٌ، وفي هذا يقولُ النَّاظمُ:
وهَمْزَ أَنْمُلَةٍ ثَلِّثْ وَثَالِثَهُ التِّسْعُ في أُصْبُعٍ واخْتِمْ بِأُصْبُوعِ
قولُهُ: (أنا الْمَلِكُ) هذهِ الجملةُ تفيدُ الحصرَ؛ لأنَّها اسميَّةٌ مُعَرَّفةُ الجزئيْنِ، ففي ذلكَ اليومِ لا مُلْكَ لأحدٍ، قالَ تعالى:
{ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } وكلُّ النَّاسِ، الملوكُ منْهُمْ والمملوكونَ على حدٍّ سواءٍ، يُحْشَرُونَ حُفاةً عراةً غُرْلاً، وبهذا يظهرُ ملكوتُ اللهِ عزَّ وجلَّ في ذلكَ اليومِ ظهورًا بَيِّنًا؛ لأنَّهُ سبحانَهُ يُنادِي: لِمَن المُلْكُ اليومَ؟ فلا يُجِيبُهُ أحدٌ، فيجيبُ نفسَهُ: { للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } .
وقولُهُ: (الْمَلِكُ) أيْ: ذُو السُّلطانِ، وليسَ مُجَرَّدَ المتصرِّفِ، بلْ هوَ المُتَصَرِّفُ فيما يَمْلِكُ على وجهِ السُّلطةِ والعلوِّ، وأمَّا (المَالِكُ) فَدُونَ ذلكَ؛ ولهذا يَمْتَدِحُ نفسَهُ تعالَى بأنَّهُ المَلِكُ.
وقولُهُ تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فيها قراءتانِ: (مَلِكِ) ، و (مَالِكِ) ؛ ليتبيَّنَ بذلكَ أنَّهُ مَلِكٌ مَالِكٌ.
مِلْكُ اللهِ تعالى مُتَضَمِّنٌ لكمالِ السُّلطانِ والتَّدبيرِ والمِلْكِ، بخلافِ غيرِهِ؛ فإنَّ منْ مُلُوكِ الدُّنيا مَنْ يكونُ مَلِكًا لا يَمْلِكُ التَّصرُّفَ، ومنهم المَالِكُ وليسَ بمَلِكٍ.
قولُهُ: (حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) أيْ: ظهرَتْ، ونواجذُ جمعُ ناجذٍ، وهوَ أقصى الأضراسِ.
وهذا الضَّحِكُ من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم تقريرٌ لقولِ الحَبْرِ، ولهذا قالَ ابنُ مسعودٍ: (تَصْديقًا لقولِ الحَبْرِ) ولوْ كان مُنْكِرًا ما ضحِكَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ ولا استشهدَ بالآيةِ، ولقالَ لهُ: كَذَبْتَ؛ كما كذَّبَ الَّذينَ ادَّعَوْا أنَّ الَّذي يَزْنِي لا يُرْجَمُ، ولكنَّهُ ضَحِكَ تصديقًا لقولِ الحبْرِ وسُرُورًا بأنَّ ما ذكرَهُ مُوَافقٌ لما جاءَ بهِ القرآنُ الَّذي أُوْحِيَ إلى محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
قولُهُ: (ثمَّ قرأَ: { وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ } ) الآيةَ، هذا معنى الآيةِ الَّتي لا تَحْتَمِلُ غيرَهُ، وأنَّ السَّماواتِ مَطْوِيَّاتٌ كطيِّ السِّجلِّ للكُتُبِ، بيمينِهِ ، أيْ: يدِهِ تباركَ وتعالَى؛ لأنَّ ذلكَ تفسيرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ، وتفسيرُهُ في الدَّرجةِ الثَّانيةِ منْ حيثُ التَّرتيبُ، لكنَّهُ كالقرآنِ في الدرجةِ الأولى منْ حيثُ القبولُ والحُجَّةُ.
وأمَّا تفسيرُ أهلِ التَّحريفِ فيقولُ بعضُهُم: (قَبْضَتُهُ) أيْ: في قبضتِهِ ومِلْكِهِ وتصرُّفِهِ، وهوَ خطأٌ؛ لأنَّ المِلْكَ والتَّصرُّفَ كائنٌ يومَ القيامةِ وقبلَهُ.
وقولُ بعضِهِم: (السَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ) أيْ: تَالِفَةٌ وهالكةٌ، كما تقولُ: انْطَوَى ذِكرُ فُلانٍ، أيْ: زالَ ذِكرُهُ، و (بيمينِهِ) ، أيْ: بِقَسَمِهِ؛ لأنَّهُ قالَ تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } فجعلوا المرادَ باليمينِ القسمَ، إلى غيرِ ذلكَ من التحريفاتِ الَّتي يلجأُ إليها أهلُ التَّحريفِ، وهذا لِظَنِّهِم الفاسدِ باللهِ؛ حيثُ زعموا أنَّ إثباتَ مثلِ هذه الصِّفاتِ يستلزمُ التَّمثيلَ، فصاروا ينكرونَ ما أثْبَتَهُ اللهُ لنفسِهِ، وما أثْبَتَهُ رسولُهُ وسلفُ الأمَّةِ بشبهاتٍ يَدَّعونَها حُجَجًا.
فيُقالُ لهمْ: هلْ أنْتُمْ أعلمُ باللهِ من اللهِ؟
إنْ قالُوا: نعمْ، كَفَرُوا.
وإنْ قالوا: لا.
قلنا: هلْ أنتمْ أفصحُ في التَّعبيرِ عن المعاني من اللهِ؟
إنْ قالوا: نعمْ؛ كفَرُوا.
وإنْ قالوا: لا.
خُصِمُوا، وقُلْنَا لهُمْ: إنَّ اللهَ بيَّنَ ذلكَ أبلغَ بيانٍ، بأنَّ الأرضَ جميعًا قبضتُهُ يومَ القيامةِ، والرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أقرَّ الحَبْرَ على ما ذَكَرَ فيما يُطَابِقُ الآيةَ، وهلْ أنتم أنصحُ من الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ لعبادِ اللهِ؟
فسيقولونَ: لا.
فإذا كانَ كلامُهُ تعالى أفصحَ الكلامِ وأصدقَهُ وأَبْيَنَهُ، وأعلمَ بما يقولُ، لَزِمَ علينا أنْ نقولَ مثلَ ما قالَ عنْ نفسِهِ، ولَسْنَا بمُذْنِبِينَ، بل الذَّنبُ على مَنْ صرَفَ كلامَهُ عنْ حقيقتِهِ الَّتي أرادَها اللهُ بِهِ.
ومن فوائدِ الحديثِ:
إثباتُ الأصابعِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ لإقرارِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ هذا الحبْرَ على ما قالَ.
والإصبعُ إِصْبُعٌ حقيقيٌّ يليقُ باللهِ عزَّ وجلَّ كاليدِ، وليسَ المرادُ بقولِهِ: (عَلَى إِصْبَعٍ) ، سهولةَ التَّصَرُّفِ في السَّماواتِ والأرضِ كما يقولُهُ أهلُ التَّحريفِ، بلْ هذا خطأٌ مُخَالِفٌ لظاهرِ اللَّفْظِ والتقسيمِ، ولأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ أثْبَتَ ذلكَ بإقرارِهِ، ولقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم:
(( إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ ) ).
وقوْلُهُ: (بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ) لا يَلْزَمُ من البَيْنِيَّةِ المُمَاسَّةُ، ألا ترى قَوْلَهُ تعالى: { وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } والسَّحابُ لا يَمَسُّ الأرضَ ولا السَّماءَ وهوَ بيْنَهُما، وتقولُ: ( عُنَيْزَةُ بَيْنَ الزُّلْفِيِّ وَالرَّسِّ ) ولا يَلْزَمُ أن تكونَ مُتَّصِلَةً بهِمَا.
وتقولُ: ( شَعْبَانُ بَيْنَ ذي القَعْدَةِ وجُمَادَى ) ولا يلزمُ أنْ يكونَ مُوَالِيًا لهُ.
فتبيَّنَ أنَّ البَيْنِيَّةَ لا تستلزمُ الاتِّصالَ في الزَّمانِ أو المكانِ.
وكما ثبتَ عنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالَى يكونُ قِبَلَ وجهِ المصلِّي، ولا يَلْزَمُ من المقابلةِ أنْ يكونَ بيْنَهُ وبينَ الجِدَارِ أو السُّترةِ الَّتي يُصَلِّي إليها، فهوَ قِبَلَ وجهِهِ وإنْ كانَ على عَرْشِهِ، ومثالُ ذلكَ: الشَّمسُ حينَ تكونُ في الأُفُقِ عندَ الشروقِ والغروبِ، فإنَّ من المُمْكِنِ أنْ تكونَ قِبَلَ وَجْهِكَ وهيَ في العُلُوِّ.
فتبيَّنَ بهذا أنَّ هؤلاءِ المحرِّفينَ على ضلالٍ، وأنَّ مَنْ قالَ: إنَّ طريقتَهُم أعلمُ وأحكمُ، فقدْ ضلَّ.
قولُهُ: (ثمَّ يَهُزُّهُنَّ) أيْ: هَزًّا حقيقيًّا، لِيُبَيِّنَ للعبادِ في ذلكَ الموقفِ العظيمِ عَظَمَتَهُ وقُدْرَتَهُ، وكانَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ يقرأُ هذهِ الآيةَ ويقبِضُ أصابِعَهُ ويبْسُطُهَا، فصارَ المِنْبَرُ يتحرَّكُ ويهْتَزُّ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ كانَ يتكلَّمُ بهذا الكلامِ وقَلْبُهُ مملوءٌ بتعظيمِ اللهِ تعالى.
فإنْ قلتَ:
هلْ نَفْعَلُ بأيدِينَا كما فعلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ؟
فالجوابُ:
إنَّ هذا يخْتَلِفُ بحسَبِ ما يترتَّبُ عليهِ،
فلَيْسَ كلُّ مَنْ شاهَدَ أوْ سَمِعَ يَتَقَبَّلُ ذِهْنُهُ ذلكَ بغيرِ أنْ يَشْعُرَ بالتَّمثيلِ، فينبغي أنْ نَكُفَّ؛ لأنَّ هذا ليسَ بواجبٍ حتَّى نقولَ: يَجِبُ علَيْنا أنْ نُبَلِّغَ كما بلَّغَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ بالقولِ والفعلِ، أمَّا إذا كُنَّا نَتَكَلَّمُ معَ طَلَبَةِ عِلْمٍ أوْ مَعَ إنسانٍ مُكَابِرٍ ينفي هذا ويُرِيدُ أنْ يُحَوِّلَ المعنى إلى غيرِ الحقيقةِ، فحينئذٍ نفعلُ كما فعلَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
فلوْ قالَ قائِلٌ: إنَّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ، لكنْ قالَ: سميعٌ بلا سمْعٍ، وبصيرٌ بلا بصَرٍ، معَ أنَّ الرَّسولَ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حينَ قرأَ قولَهُ تعالَى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وضعَ إبهامَهُ على أُذُنِهِ والتي تَلِيهَا على عَيْنِهِ، وأبو هريرةَ حينَ حدَّثَ بهِ كذلكَ، فهذا الإنسانُ الَّذي يقولُ: إنَّ اللهَ سميعٌ بلا سَمْعٍ، بصيرٌ بلا بصَرٍ، نقولُ لهُ هكذا.
وكذلكَ الَّذي يُنْكِرُ حقيقةَ اليدِ، ويقولُ: إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ السَّماواتِ بيمينِهِ، وإنَّ معنى (قَبْضَتُهُ) أيْ: في تصرُّفِهِ، فهذا نقولُ لهُ كما فعلَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
فالمقامُ ليسَ بالأمرِ السَّهلِ، بلْ هوَ أمرٌ صعبٌ ودقيقٌ للغايةِ، فإنَّهُ يُخْشَى منْ أنْ يقعَ أحدٌ في محذورٍ كانَ بإمكانِكَ أنْ تُمْسِكَ عنهُ، وهذا هوَ فعلُ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ في جميعِ تصرُّفاتِهِ إذا تأمَّلْتَهَا، حتَّى الأمورُ العمليَّةُ قدْ يُؤَجِّلُها إذا خافَ منْ فتنةٍ أوْ مِنْ شيءٍ أشدَّ ضررًا، كما أخَّرَ بناءَ الكعبةِ على قواعدِ إبراهيمَ خوفًا منْ أنْ يكونَ فتنةً لقريشٍ الَّذين أسْلَمُوا حديثًا.
قولُهُ: (والماءَ والثَّرَى على إصبَعٍ) هذا لا ينافي قولَهُ: (الأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ) لأنَّهُ يُقالُ: (والماءَ والثَّرى على إصبَعٍ) أي: الأرضَ كلَّها على إصبَعٍ، ويُرادُ بالأصبعِ الجنسُ، وإلاَّ لَتَنَاقَضَ معَ معنى الحديثِ الَّذي قَبْلَهُ
(( الشَّجَرُ عَلى إصْبَعٍ، والماءُ على إِصبَعٍ، والثَّرى على إصْبَعٍ ) )إذ النَّكِرةُ إذا كُرِّرَتْ بلفظِ النَّكِرةِ، فالثَّاني غيرُ الأوَّلِ غالبًا، وإذا كُرِّرَتْ بلفظِ المعرفةِ فالثَّاني هوَ الأوَّلُ غالبًا، فيُقالُ: الماءُ والثَّرى كنايةٌ عن الأرضِ كلِّها، أوْ إنَّ الماءَ والثَّرى على إصبعٍ، وسكتَ عن الباقي، إمَّا اختصارًا أو اقتصارًا.
قولُهُ: (ولِمُسْلِمٍ عن ابنِ عمرَ مرفوعًا:(( يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ... ) )) سبقَ معنى هذا الحديثِ، وأنَّ المرادَ بالطَّيِّ الطيُّ الحقيقيُّ.
قولُهُ: (ثُمَّ يقولُ: أَنا المَلِكُ) يقولُ ذلكَ ثناءً على نفسِهِ سبحانَهُ، وتنبيهًا على عظمتِهِ الكاملةِ، وعلى مِلْكِهِ الكاملِ، وهوَ السُّلطانُ فهوَ مالكٌ ذو سلطانٍ، وهذهِ الجملةُ كِلا جُزْئَيْها معرِفَةٌ، وإذا كانَ الخبرُ والمبتدأُ كِلاهُما معرِفَةً فإنَّ ذلكَ منْ طُرُقِ الحَصْرِ، أيْ: أنا الذي لي المِلْكِيَّةُ المُطْلَقَةُ والسلطانُ التامُّ، لا يُنازعُنِي فيهما أحدٌ.
قولُهُ: (أَينَ الجبَّارونَ؟) الاستفهامُ للتَّحدِّي، فيقولُ: أينَ المُلُوكُ الَّذين كانوا في الدُّنيا لهم السُّلطةُ والتَّجبُّرُ والتَّكبُّرُ على عبادِ اللهِ؟
وفي ذلكَ الوقتِ يُحْشَرونَ أمثالَ الذَّرِّ يَطَؤُهُم النَّاسُ بأقدامِهِم.
قولُهُ: (يَطْوِي الأَرَضِينَ السَّبعَ) أشارَ اللهُ في القرآنِ إلى أنَّ الأرَضِينَ سبعٌ، ولم يَرِد العددُ صريحًا في القرآنِ، قالَ تعالَى: { اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } ، والمماثلةُ هنا لا تَصِحُّ إلاَّ في العددِ؛ لأنَّ الكيفيَّةَ تَتَعَذَّرُ المماثلةُ فيها، وأمَّا السُّنَّةُ فقدْ صرَّحَتْ بعدَّةِ أحاديثَ بأنَّها سبْعٌ.
قولُهُ: (ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ) كلمةُ (شِمَالٍ) اختَلَفَ فيها الرُّواةُ، فمنْهُم مَنْ أثْبَتَها، ومنْهُم مَنْ أسقَطَهَا، وقدْ حَكَمُوا على مَنْ أثْبَتَها بالشُّذوذِ؛ لأنَّهُ خالَفَ ثِقَتَيْنِ في رِوَايَتِهَا عن ابنِ عُمَرَ.
ومنْهُم مَنْ قالَ: إنَّ نَاقِلَهَا ثِقَةٌ، ولكنَّهُ قَالَها مِنْ تَصَرُّفِهِ.
وأصلُ هذه التَّخْطِئَةِ هوَ ما ثَبَتَ في (صحيحِ مسلمٍ) أنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ قالَ: (( الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ) )وهذا يقتضي أنَّهُ ليسَ هناكَ يَدٌ يمينٌ ويدٌ شِمَالٌ.
ولكنْ إذا كانَتْ لفْظَةُ (شمالٍ) محفوظةً، فهيَ عندي لا تُنافي (( كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ) )لأنَّ المعنى أنَّ اليدَ الأخرى ليْسَتْ كَالْيَدِ الشِّمالِ بالنِّسبةِ للمخلوقِ ناقصةً عن اليدِ اليُمنى، فقالَ: (( كِلْتا يَدَيْهِ يَمِينٌ ) )أيْ: ليسَ فيها نقصٌ.
وَيُؤَيِّدُ هذا قولُهُ في حديثِ آدمَ: (( اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ ) )فلمَّا كانَ الوَهْمُ يَذْهَبُ إلى أنَّ إثباتَ الشِّمالِ يعني النَّقصَ في هذهِ اليدِ دونَ الأخرى، قالَ: (( كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ) ).
ويُؤَيِّدُهُ أيضًا قولُهُ: (( الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ ) )فإنَّ المقصودَ بَيَانُ فضلِهِم ومَرْتَبَتِهِم وأنَّهم على يمينِ الرَّحمنِ سُبْحَانَهُ.
وعلى كُلٍّ فإنَّ يدَيْهِ سبحانَهُ اثنتانِ بلا شكٍّ، وكلُّ واحدةٍ غيرُ الأخرى، وإذا وصَفْنَا اليدَ الأخرى بالشِّمالِ، فليسَ المرادُ أنَّها أقلُّ قوَّةً من اليدِ اليُمنى، بلْ كِلْتَا يديهِ يمينٌ.
والواجبُ عَلَيْنَا أنْ نقولَ: إنْ ثَبَتَتْ عنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بها ولا مُنَافاةَ بيْنَها وبينَ قولِهِ: (( كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ) )كما سَبَقَ، وإنْ لمْ تَثْبُتْ فلنْ نقولَ بها.
قولُهُ: (فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ) هكذا ساقَهُ المُؤَلِّفُ، والذي في ابنِ جريرٍ: (فِي يَدِ اللهِ) ، ففيما ساقَهُ المؤلِّفُ إثباتُ الكفِّ للهِ تعالى إنْ كانَ السياقُ محفوظًا، وإلاَّ ففيهِ إثباتُ اليدِ، أمَّا الكفُّ فقدْ ثبتَ في أحاديثَ أُخْرَى صحيحةٍ.
قولُهُ: (إلاَّ كَخَرْدَلةٍ) هيَ حبَّةُ نباتٍ صغيرةٌ جِدًّا، يُضرَبُ بها المثلُ في الصِّغَرِ والقِلَّةِ، وهذا يدلُّ على عظمتِهِ سبحانَهُ، وأنَّهُ سبحانَهُ لا يُحِيطُ بهِ شيءٌ، والأمرُ أعظمُ منْ هذا التَّمثيلِ التَّقريبيِّ؛ لأنَّهُ تعالى لا تُدْرِكُهُ الأبصارُ، ولا تُحِيطُ بهِ الأفهامُ.
قولُهُ: (قالَ ابنُ جريرٍ) هوَ المفسِّرُ المشهورُ رَحِمَهُ اللهُ، ولهُ تفسيرٌ أَثَرِيٌّ يعْتَمِدُ فيهِ على الآثارِ.
قولُهُ: (ما السَّماواتُ السَّبْعُ في الكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ سبعةٍ أُلْقِيَتْ في تُرْسٍ) (الكُرْسِيُّ) موضِعُ قَدَمَي اللهِ تعالَى، هكذا قالَ ابنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما، والدراهِمُ: جمعُ دِرْهَمٍ، وهوَ النَّقدُ مِن الفِضَّةِ، والتُّرْسُ: شيءٌ مِنْ جِلدٍ أوْ خَشَبٍ، ويُحْمَلُ عندَ القتالِ يُتَّقَى بهِ السيفُ والرمحُ ونحوُهُما.
قولُهُ: (مَا الكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ) أيْ: بالنسبةِ إليهِ، والعرشُ هوَ المخلوقُ العظيمُ الذي استوى عليهِ الرَّحْمَنُ، ولا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ، والمرادُ بالحَلْقَةِ حلْقَةُ الدِّرْعِ، وهيَ صغيرةٌ وليسَتْ بشيءٍ بالنسبةِ إلى فَلاةِ الأرضِ.
وهذا الحديثُ يدلُّ على عظمتِهِ عزَّ وجلَّ، فيكونُ مناسبًا لتفسيرِ الآيةِ التي جعلَهَا المؤلِّفُ ترجمةً للبابِ.
قولُهُ: (وعَن ابنِ مسعودٍ...) هذا الحديثُ موقوفٌ على ابنِ مسعودٍ، لكنَّهُ من الأشياءِ الَّتي لا مجالَ للرَّأْيِ فيها، فيكونَ لهُ حُكْمُ الرَّفعِ؛ لأنَّ ابنَ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنهُ لمْ يُعْرَفْ بالأخذِ عن الإسرائيليَّاتِ.
قولُهُ: (بَيْنَ السَّماءِ الدُّنيا والَّتي تَليها خَمْسُمِائَةِ عامٍ) وعلى هذا تكونُ المسافةُ بينَ السَّماءِ الدُّنيا والماءِ أربعةَ آلافِ سنةٍ.
وفي حديثٍ آخَرَ: (( إِنَّ كِثَفَ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ) )وعلى هذا يكونُ بينَ السَّماءِ الدُّنيا والماءِ سبعةُ آلافٍ وخمْسُمِائةِ عامٍ، وإنْ صحَّ الحديثُ فمعناهُ أنَّ عُلُوَّ اللهِ عزَّ وجلَّ بعيدٌ جدًّا.
وأمَّا قولُهُ: { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } فَيُمْكِنُ فيها التَّأويلُ أيضًا بأنْ يُقالَ: المرادُ بقولِهِ: { فِيهِنَّ } في جِهِتِهِنَّ، وجِهَةُ السَّماواتِ العُلُوُّ، وحينئذٍ يُمْكِنُ الجمعُ بينَ الآياتِ والواقعِ.
قولُهُ: (وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) هذا نصٌّ صريحٌ بإثباتِ عُلُوِّ اللهِ تعالى عُلُوًّا ذَاتيًّا.
وعُلُوُّ اللهِ ينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
الأول:
عُلوُّ الصِّفةِ: وهذا لا يُنْكِرُهُ أحدٌ ينتسبُ للإسلامِ، والمرادُ بهِ كمالُ صفاتِ اللهِ، كما قالَ تعالى: { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
الثاني:
عُلُوُّ الذَّاتِ: وهذا أنْكَرَهُ بعضُ المنتسبينَ للإسلامِ فيقولونَ: كُلُّ العُلُوِّ الواردِ المضافِ إلى اللهِ المرادُ بهِ عُلُوُّ الصِّفةِ، فيقولونَ في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: (( وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ ) )أيْ: في القُوَّةِ والسَّيطرةِ والسُّلطانِ، وليسَ فوقَهُ بذَاتِهِ، ولا شكَّ أنَّ هذا تحريفٌ في النصوصِ وتعطيلٌ في الصفاتِ.
قال الحافظ الذهبي: (وأول وقت سُمعت مقالة من أنكر أن الله تعالى فوق العرش: هو الجعد بن درهم، وكذلك أنكر جميع الصفات، فقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة ) .
والَّذين أنْكَرُوا عُلُوَّ اللهِ بذاتِهِ انْقَسَمُوا إلى قسمَيْنِ:
الأول:
مَنْ قالَ: إنَّ اللهَ بذاتِهِ في كلِّ مكانٍ، وهذا لا شكَّ ضلالٌ مُقْتَضٍ للكفرِ.
الثاني:
مَنْ قالَ: إنَّهُ لا فَوْقُ ولا تَحْتُ، ولا يَمِينٌ ولا شِمَالٌ،
ولا مُتَّصِلٌ بالخلقِ ولا مُنْفَصِلٌ عن الخلقِ، وهذا إنْكَارٌ محضٌ لوجودِ اللهِ، والعياذُ باللهِ؛ ولهذا قالَ بعضُ العلماءِ: لوْ قيلَ لَنَا: صِفُوا العدمَ، ما وَجَدْنَا أبْلَغَ منْ هذا الوصفِ.
فَفَرُّوا منْ شيءٍ دَلَّتْ عليهِ النُّصوصُ والعقولُ والفِطَرُ إلى شيءٍ تُنْكِرُهُ النُّصوصُ والعقولُ والفِطَرُ.
قولُهُ: (لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) يشملُ أعمالَ القلوبِ وأعمالَ الجوارحِ؛ المرئيَّ منها والمسموعَ، وذلكَ لعمومِ علمِهِ وَسَعَتِهِ، وإنَّما أَتَى بذلكَ بعدَ ذِكْرِ عُلُوِّهِ لِيُبَيِّنَ أنَّ عُلُوَّهُ لا يَمْنَعُ عِلْمَهُ بأعمالِنَا، وهوَ إشارةٌ واضحَةٌ إلى عُلُوِّ ذاتِهِ تبارَكَ وتعالَى.
قولُهُ: (العبَّاسِ) يُقالُ: العبَّاسُ، وعبَّاسٌ، و (أَلْ) هنا لا تُفِيدُ التَّعريفَ؛ لأنَّ عَبَّاسًا مَعْرِفَةٌ لكونِهِ عَلَمًا، لكنَّها لِلَمْحِ الأصلِ، كما يُقَالُ: الفضلُ، لفضلِهِ، والعبَّاسُ لِعُبُوسِهِ على الأعداءِ.
قال ابنُ مَالِكٍ:
وبعضُ الأعلامِ عليهِ دَخَلا لِلَمْحِ ما قدْ كانَ عنهُ نُقِلا
قوْلُهُ: (هَلْ تَدْرُونَ) (هل) استفهاميَّةٌ، يُرَادُ بها أمْرَانِ:
أحدهما:
التَّشويقُ لما سَيَذْكُرُ.
والآخر:
التَّنبيهُ إلى ما سَيُلْقِيهِ عليهم، وهذا كقولِهِ تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } ، هذا تنبيهٌ وتشويقٌ إلى شيءٍ منْ آياتِ اللهِ الكونيَّةِ، وقولِهِ تعالى: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا تنبيهٌ وتشويقٌ إلى شيءٍ منْ آياتِ اللهِ الشّرعيَّةِ، وهو الإيمانُ والعملُ الصَّالِحُ، وقولِهِ: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } تنبيهٌ وتحذيرٌ، وقولِهِ: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ } تنبيهٌ وتحذيرٌ.
واختلافُ هذهِ المعاني بحسَبِ القرائنِ والسياقِ، وإلاَّ فالأصلُ في الاستفهامِ أنَّهُ طلبُ العلمِ بالشيءِ.
قولُهُ: (كَمْ) استفهاميَّةٌ.
قولُهُ: (قُلنا: اللهُ ورسولُهُ أعْلَمُ) جاءَ العطفُ بالواوِ؛ لأنَّ عِلْمَ الرَّسولِ منْ عِلْمِ اللهِ، فهوَ الَّذي يُعَلِّمُهُ بما لا يُدْرِكُهُ البشرُ.
وكذلكَ في المسائلِ الشَّرعيَّةِ يُقَالُ: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ؛ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أَعْلَمُ الخلقِ بشرعِ اللهِ، وعِلْمُهُ بهِ مِنْ عِلْمِ اللهِ، وما قالَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الشرعِ فهوَ كقولِ اللهِ.
وليسَ هذا كقولِهِ: ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ؛ لأنَّ هذا في بابِ القدَرِ والمشيئةِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُجْعَلَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ مشاركًا للهِ في ذلكَ، بلْ يُقَالُ: ما شاءَ اللهُ، ثمَّ يُعْطَفُ بِـ (ثُمَّ ) والضابِطُ في ذلكَ أنَّ الأمورَ الشرعيَّةَ يصِحُّ فيها العطفُ بالواوِ، وأمَّا الكونيَّةُ فلا.
ومِنْ هنا نعرِفُ خطأَ وجهلَ مَنْ يَكْتُبُ على بعضِ الأعمالِ:
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } بعدَ موتِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ وتعذُّرِ رُؤْيَتِهِ؛ فاللهُ يرى، ولكنَّ رسولَهُ لا يرى، فلا تجوزُ كتابَتُهُ؛ لأنَّهُ كَذِبٌ عليهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.
قولُهُ: (خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ) الميمُ الثَّانيةُ في خمسِمائةٍ مكسورةٌ، والألفُ لا يُنْطَقُ بها.
قولُهُ: (وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) وذلكَ خمْسُمِائةِ سنةٍ.
قولُهُ: (واللهُ تعالى فوقَ ذلكَ) هذا دليلٌ على العُلُوِّ العظيمِ للهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّهُ سبحانَهُ فوقَ كلِّ شيءٍ، ولا يُحِيطُ بهِ شيءٌ منْ مخلوقاتِهِ، لا السَّماواتُ ولا غيْرُهَا.
وعليهِ فإنَّهُ سبحانَهُ لا يُوصَفُ بأنَّهُ في جهةٍ تُحِيطُ بهِ؛ لأنَّ ما فوقَ السَّماواتِ والعرشِ عَدَمٌ، ليسَ هناكَ شيءٌ حتَّى يُقالَ: إنَّ اللهَ أحاطَ بِهِ شيءٌ منْ مخلوقاتِهِ.
ولهذا جاءَ في بَعْضِ كُتُبِ أهلِ الكلامِ يقولونَ: لا يجوزُ أنْ يُوصَفَ اللهُ بأنَّهُ في جهةٍ مطلَقًا، ويُنْكِرُونَ العُلُوَّ ظنًّا منهمْ أنَّ إثباتَ الجهةِ يستلزمُ الحصْرَ.
وليسَ كذلِكَ؛ لأنَّنا نَعْلَمُ أنَّ ما فوقَ العرشِ عَدَمٌ لا مخلوقاتِ فيهِ، ما ثَمَّ إلاَّ اللهُ، ولا يُحِيطُ بهِ شيءٌ منْ مخلوقاتِهِ أبدًا.
فالجهةُ إثباتُهَا للهِ فيهِ تفصيلٌ، أمَّا إطلاقُ لفظِهَا نفيًا وإثباتًا فلا نقولُ بهِ؛ لأنَّهُ لم يَرِدْ أنَّ اللهَ في جِهَةٍ، ولا أنَّهُ ليسَ في جهةٍ، ولكنْ نُفَصِّلُ فنقولُ: إنَّ اللهَ في جِهَةِ العُلُوِّ؛ لأنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ قالَ لِلْجَارِيَةِ: (( أَيْنَ اللهُ؟ ) )و (أينَ) يُسْتَفْهَمُ بها عن المكانِ، فقالَتْ: في السَّماءِ.
فأثبَتَتْ ذلِكَ، فأقرَّها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عليهِ وقالَ: (( أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ) ).
وأهلُ التَّحريفِ يقولونَ: (أينَ) بمعنى (مَنْ) ، أيْ: ( مَن اللهُ؟ ) قالَتْ: في السَّماءِ، أيْ: هوَ مَنْ في السَّماءِ، ويُنْكِرُونَ العُلُوَّ.
وقدْ رَدَّ عليْهِم ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ في كُتُبِهِ، ومنها (النُّونيَّةُ) ، وقالَ لهم: (اللُّغةُ العربيَّةُ لا تَأْتِي فيها(أينَ) بمعنى (مَنْ) ، وفَرْقٌ بينَ (أينَ) و (مَنْ) .
فالجِهةُ للهِ ليسَتْ جهةَ سُفْلٍ؛ وذلكَ لوُجُوبِ العُلُوِّ لهُ فِطْرَةً وعَقْلاً وسَمْعًا، وليْسَتْ جِهَةَ عُلُوٍّ تُحِيطُ بهِ؛ لأنَّهُ تعالى وَسِعَ كرسيُّهُ السَّماواتِ والأرضَ، وهوَ موضعُ قدَمَيْهِ، فكيفَ يُحِيطُ بهِ تعالَى شيءٌ منْ مخلوقاتِهِ؟!
فهوَ في جهةِ عُلُوٍّ لا تُحِيطُ بهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ شيئًا يُحِيطُ بهِ؛ لأنَّنا نقولُ: إنَّ ما فوقَ العرشِ عَدَمٌ، ليسَ ثَمَّ إلاَّ اللهُ سبحانَهُ؛ ولهذا قالَ: (( وَاللهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ ) ).
قولُهُ: (وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ) وقولُهُ: (أعمالِ) إنْ قُرِنَتْ بالأقوالِ صارَ المرادُ بها أعمالَ الجوارحِ، والأقوالُ باللسانِ، وإنْ أُفرِدَتْ شَمِلَتْ أعمالَ الجوارحِ وأقوالَ اللِّسانِ وأعمالَ القلوبِ، وهيَ هنا مفردَةٌ فتشمَلُ كلَّ ما يَتَعَلَّقُ باللِّسانِ أو القلبِ أو الجوارحِ، بلْ أبلغَ مِنْ ذلكَ أنَّهُ لا يخْفَى عليهِ شيءٌ منْ أعمالِ بني آدمَ في المستقبلِ، فهو يَعْلَمُ ما يكونُ فضلاً عمَّا كانَ، قالَ تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أيْ: ما يَسْتَقْبِلُونَهُ وما مضى علَيْهِمْ، ولمَّا قالَ فرعونُ لموسى: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى } أيْ: ما شأنُهَا؟
قالَ: { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ } أيْ: محفوظةٌ، { لاَ يَضِلُّ رَبِّي } لا يَجْهَلُ، { وَلاَ يَنْسَى } لا يَذْهَلُ عمَّا مضى سُبْحانَهُ وتعالى.
والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ صَدَّرَ هذا الأمرَ بِـ (هلْ) الدَّالَّةِ على التَّشويقِ والتَّنبيهِ، منْ أجْلِ أنْ يُثْبِتَ عقيدةً عظيمةً، وهوَ أنَّهُ تعالى فوقَ كلِّ شيءٍ بذاتِهِ، وأنَّهُ مُحِيطٌ بكلِّ شيءٍ في عِلْمِهِ؛ لِقَوْلِهِ: (( وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ ) )فإذا عَلِمْنا ذلكَ أَوجَبَ لنا تعْظِيمَهُ، والحذرَ منْ مُخَالفتِهِ؛ لأنَّهُ فَوْقَنا، فهوَ عَالٍ عَلَيْنا وأمرُهُ مُحِيطٌ بِنَا.
وفي الحديثِ صفتانِ للهِ:
الأولى:
ثبوتيَّةٌ وهيَ العُلُوُّ المستفادُ منْ قولِهِ: (( وَاللهُ فَوْقَ ذَلِكَ ) ).
والثانية:
سلبيَّةٌ المستفادةُ منْ قولِهِ: (( لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ ) )ولا يُوجَدُ في صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ صفةٌ سلبيَّةٌ مَحْضَةٌ، بلْ صفاتُهُ السَّلبيَّةُ الَّتي هيَ النَّفيُ متضمِّنةٌ لثبوتِ ضِدِّها على وجْهِ الكمالِ، فَيُنْفَى عنهُ الخفاءُ لكمالِ علمِهِ، ويُنْفَى عنهُ اللُّغوبُ لكمالِ قُوَّتِهِ، ويُنْفَى عنهُ العجزُ لكمالِ قُدْرَتِهِ، وما أشبهَ ذلكَ.
فإذًا إذا نَفَى اللهُ عنْ نفسِهِ شيئًا من الصِّفاتِ فالمرادُ انتفاءُ تلكَ الصِّفةِ عنهُ لكمالِ ضدِّهَا، كما قالَ تعالى: { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } السِّنَةُ: النُّعاسُ، والنَّومُ: الإغفاءُ العميقُ، وذلكَ لكمالِ حَيَاتِهِ وقَيُّومِيَّتِهِ؛ إذ لوْ كانَ ناقصَ الحياةِ لاَحْتَاجَ إلى النَّومِ، ولوْ نامَ ما كانَ قَيُّومًا على خلْقِهِ؛ لأنَّهُ حينَ ينامُ لا يكونُ هناكَ مَنْ يقُومُ عليهم؛ ولهذا كانَ أهلُ الجنَّةِ لا ينامونَ لكمالِ حياتِهِم؛ ولأنَّ النَّومَ في الجنَّةِ يُذْهِبُ عليهم وقتً بلا فرَحٍ ولا سُرورٍ ولا لذَّةٍ؛ لأنَّ السُّرورَ فيها دائمٌ، ولأنَّ النَّومَ هوَ الوفاةُ الصُّغرى، والجنَّةُ لا مَوْتَ فيها.
وليسَ في صفاتِ اللهِ نفيٌ مَحْضٌ؛
لأنَّ النفيَ المحضَ عدمٌ لا ثناءَ فيهِ ولا كمالَ، بلْ هوَ لا شيءَ؛ ولأنَّ النَّفيَ أحيانًا يَرِدُ لكونِ المَحَلِّ غيرَ قابلٍ لهُ، مثلَ قولِكَ: الجدارُ لا يَظْلِمُ.
وقدْ يكونُ نفيُ الذَّمِّ ذمًّا، كما في قولِهِ:
قُبَيِّلَةٌ لا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ولا يظلمونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
فنفيُ الغدرِ عنهم والظلمِ ليسَ مَدْحًا، بلْ هوَ ذمٌّ يُنبِئُ عنْ عجزِهم وضعفِهِم.
وقالَ آخَرُ:
لكنَّ
قَوْمِي وإنْ كَانوا ذَوِي عددٍ لَيْسُوا مِن الشَّرِّ في شيءٍ وإنْ هَانَا
يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أهلِ الظُّلمِ مغفرةً ومِنْ إساءَةِ أهْلِ السَّوءِ إحسانَا
كأنَّ ربَّكَ لمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِواهُمْمِنْ جَمِيعِ الناسِ إنسانَا
فَلَيْتَلِي بِهِمْ قَوْمًا إذا رَكِبُوا شَنُّوا الإِغَارَةَ رُكْبَانًا وفُرْسَانَا
فَنَفَى أنْ يكونَ لهم يَدٌ في الشرِّ، وبيَّنَ أنَّ ذلكَ لعجزِهِم عن الانتصارِ لأنفسِهِم، وتمنَّى أنْ يكونَ لهُ قَوْمٌ خَيْرٌ منْهُم وأقْوَى.
فيهِ مسائلُ:
الأولى: (تفسيرُ قولِهِ تعالى: { وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ) وقدْ تقدَّمَ منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ حيثُ أقرَّ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ الحَبْرَ على ذلكَ، أنَّ اللهَ يجعلُ السَّمَاوَاتِ على إصبعٍ... إلخ.
الثَّانيةُ: (أنَّ هذهِ العلومَ وأَمثالَها باقِيَةٌ عندَ اليهودِ الَّذينَ في زَمَنِهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ لَمْ يُنْكِرُوها ولَمْ يَتأَوَّلُوها) كأنَّهُ يقولُ: إنَّ اليهودَ خَيْرٌ منْ أولئكَ المحرِّفينَ لها؛ لأنَّهم لم يُكَذِّبُوها، ولمْ يتأوَّلُوها، وجاءَ قومٌ منْ هذهِ الأمَّةِ فقالوا: ليسَ للهِ أصابعُ، وإنَّ المرادَ بها القُدْرَةُ، فكأنَّهُ يقولُ: اليهودُ خيرٌ منْهُمْ وأعرفُ باللهِ.
الثالثةُ: (أنَّ الحَبْرَ لمَّا ذَكَرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ صَدَّقَهُ، ونَزَلَ القرآنُ بتقريرِ ذلِكَ) ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ بقولِهِ: (وَنَزَلَ القرآنُ) أنَّهُ بعدَ كلامِ الحَبْرِ، وليسَ كذلكَ؛ لأنَّهُ في حديثِ ابنِ مسعودٍ قالَ: ثمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ: { وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ } وهذا يدلُّ على أنَّ الآيةَ نزلَتْ مِنْ قَبْلُ، لكنَّ مرادَ المؤلِّفِ أنَّ القرآنَ قدْ نَزَلَ بتقريرِ ذلكَ.
الرَّابعةُ: (وُقُوعُ الضَّحِكِ من الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ الحَبْرُ هذا العِلْمَ العظيمَ) ففيهِ دليلٌ على جوازِ الضَّحِكِ في تقريرِ الأشياءِ؛ لأنَّ الضَّحِكَ يدُلُّ على الرِّضا وعدمِ الكراهيَةِ.
الخامسةُ: (التَّصريحُ بذِكْرِ اليدَيْنِ، وأنَّ السماواتِ في اليَدِ اليُمنى، والأرَضِينَ في الأخرى) وقدْ ثبَتَت اليدانِ للهِ تعالى بالكتابِ والسنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ.
وقولُهُ: (في الأُخرى) لا يعني أنَّهُ ينْفِي ذِكرَ الشِّمالِ لِمَا ذكَرَهُ في المسألةِ التاليَةِ، وهيَ:
السَّادِسةُ: (التَّصريحُ بتسمِيَتِها الشِّمالَ) وقدْ سبقَ الكلامُ على ذلكَ.
السَّابِعةُ: (ذِكْرُ الجبَّارينَ والْمُتكَبِّرينَ عنْدَ ذلِكَ) وَوَجْهُ ذكرِهِم أنَّهُ إذا كانَ لهم تجبُّرٌ وتكبُّرٌ الآنَ فليَقُومُوا بذلكَ.
الثَّامنةُ: (قَوْلُهُ:(كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ ) ) يعني بذلكَ: قولَهُ في الحديثِ: (( مَا السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي كَفِّ الرَّحمنِ إِلا كَخَرْدَلةٍ فِي كَفِّ أحَدِكُمْ ) )هكذا قالَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في كَفِّ أحدِكُمْ، وقدْ ساقَ الأثرَ بقولِهِ: (كَخَرْدَلةٍ فِي يدِ أحَدِكُم) .
التَّاسعةُ: (عِظَمُ الكُرْسِيِّ بالنَّسْبَةِ إلى السَّماءِ) حيثُ ذكرَ أنَّها بالنِّسبةِ للكرسيِّ كدراهمَ سبعةٍ أُلْقِيَتْ في تُرْسٍ.
العاشِرةُ: (عِظَمُ العَرْشِ بالنَّسْبةِ إلى الكُرْسِيِّ) لأنَّهُ جعَلَ الكرسيَّ كحلْقَةٍ أُلْقِيَتْ في فَلاةٍ من الأرضِ بالنسبَةِ للعرْشِ.
الحاديةَ عشرةَ: (أنَّ العرشَ غَيْرُ الكُرْسِيِّ والماءِ) ولمْ أرَ مَنْ قالَ: إنَّ العرشَ هوَ الماءُ، لكنْ هناكَ مَنْ قالَ: إنَّ العرشَ هوَ الكرسيُّ؛ لحديثِ: (( إِنَّ اللهَ يَضَعُ كُرْسِيَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) )وظنُّوا أنَّ هذا الكرسيَّ هوَ العرشُ؛ وكذلكَ زعَمَ بعضُ النَّاسِ أنَّ الكرسيَّ هوَ العِلْمُ، فقالُوا في قولِهِ تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } أيْ: عِلْمُهُ، والصَّوابُ أنَّ الكرسيَّ مَوْضِعُ القدميْنِ، والعرشَ هوَ الَّذي استوى عليهِ الرَّحْمنُ سبحانَهُ، والعلْمَ صفَةٌ في العالِمِ يُدْرِكُ بها المَعْلُومَ.
الثَّانيةَ عَشْرَةَ: (كَمْ بَيْنَ كُلِّ سماءٍ إلى سماءٍ، وهوَ خَمْسُمِائَةِ عامٍ) .
الثَّالثةَ عشرةَ: (كمْ بينَ السماءِ السَّابعةِ والكُرسيِّ، وهوَ خمْسُمِائَةِ عامٍ) .
الرَّابعةَ عشرةَ: (كمْ بينَ الكُرسِيِّ والماءِ، وهوَ خَمْسُمِائَةِ عامٍ) .
الخامسةَ عشرةَ: (أنَّ العرشَ فوقَ الماءِ، وهيَ ظاهِرةٌ) .
السَّادسةَ عشرةَ: (أنَّ اللهَ فوقَ العرْشِ، وهيَ ظاهرةٌ) .
السَّابعةَ عشرةَ: (كمْ بينَ السَّماءِ والأرضِ، وهوَ خَمْسُمِائَةِ عامٍ) .
الثَّامنةَ عشرةَ: (كِثَفُ كُلِّ سماءٍ خَمْسُمِائَةِ سنةٍ) .
التَّاسعةَ عشرةَ: (أنَّ البحرَ الَّذي فوقَ السَّماواتِ بينَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ خَمْسُمِائَةِ سَنةٍ) .
وقدْ سبَقَ الكلامُ على جميعِ هذه المسائلِ بأدلَّتِها.
واللهُ أعلمُ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وأسألُ اللهَ أنْ يَخْتِمَ لنا ولَكُمْ بالتَّوحيدِ، آمينَ.