فهرس الكتاب
الصفحة 88 من 93

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} [الْمَائِدَةُ:89] .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (( الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ ) )أَخْرَجَاهُ.

وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛ أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ؛ لاَ يَشْتَرِي إِلاَّ بِيَمِينِهِ وَلاَ يَبِيعُ إِلاَّ بِيَمِينِهِ ) )رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَفِي (الصَّحِيحِ) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ ) ).

وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شِهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ ) ).

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: (كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ) .

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

الْوَصِيَّةُ بِحِفْظِ الأَيْمَانِ.

الثَّانِيَةُ:

الإِخْبَارُ بِأَنَّ الْحَلِفَ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقةٌ لِلْبَرَكَةِ.

الثَّالِثَةُ:

الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ لاَ يَبِيعُ وَلاَ يَشْتَرِي إِلاَّ بِيَمِينِهِ.

الرَّابِعَةُ:

التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ يَعْظُمُ مَعَ قِلَّةِ الدَّاعِي.

الْخَامِسَةُ:

ذَمُّ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ وَلاَ يُسْتَحْلَفُونَ.

السَّادِسَةُ:

ثَنَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقُرُونِ الثَّلاَثَةِ أَوِ الأَرْبَعَةِ، وَذِكْرُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُمْ.

السَّابِعَةُ:

ذَمُّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ.

الثَّامِنَةُ:كَوْنُ السَّلَفِ يَضْرِبُونَ الصِّغَارَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ.

الحَلِفُ هو: اليمينُ، والقَسَمُ، وهو تأكيدُ الشيءِ بذكْرِ معظَّمٍ، بصيغَةٍ مخصوصةٍ بأحدِ حروفِ القَسَمِ، وهي: الباءُ والواوُ والتاءُ.

ومناسبةُ البابِ لكتابِ التَّوحيدِ:

أنَّ كثرةَ الحلفِ باللهِ يدلُّ على أنَّه ليس في قلبِ الحالفِ من تعظيمِ اللهِ ما يقتضي هيبةَ الحلفِ باللهِ، وتعظيمُ اللهِ -تعالى- من تمامِ التَّوحيدِ.

قولُه تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} هذه الآيةُ ذكَرَها اللهُ في سياقِ كفَّارةِ اليمينِ، وكلُّ يمينٍ لها ابتداءٌ وانتهاءٌ ووسطٌ، فالابتداءُ الحلفُ، والانتهاءُ الكفَّارةُ، والوسطُ الحِنْثُ، وهو أن يفعلَ ما حلَفَ على تركِهِ، أو يَتْرُكَ ما حلَفَ على فعلِهِ، وعلى هذا كلُّ يمينٍ على شيءٍ ماضٍ فلا حِنْثَ فيه، وما لا حنثَ فيه فلا كفَّارةَ فيه، لكن إن كانَ صادقًا فقد بَرَّ، وإلا فهو آثِمٌ؛ لأنَّ الكفَّارةَ لا تكونُ إلا على شيءٍ مستقبلٍ.

وهل يجوزُ أنْ يَحْلِفَ على ما في ظنِّهِ؟

الجوابُ: نَعَم،

ولذلِك أدلَّةٌ كثيرةٌ، منها: قولُ المُجَامِعِ في نهارِ رمضانَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (( واللهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْها أهلُ بيتٍ أفقرُ مِنِّي ) )لكنْ إنْ حلَفْتَ على مسْتَقْبَلٍ بناءً على غلبةِ الظَّنِّ ولم يحصلْ فقيلَ: تلزمُكَ كفَّارةٌ.

وقيلَ: لا تلزمُكَ.

وهو الصَّحيحُ، كما لو حلَفْتَ على ماضٍ.

إذن قولُه: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} بعدَ أنْ ذكَرَ اليمينَ، والكفَّارةَ والحنثَ، فما المرادُ بحفظِ اليمينِ؟

هل هو الابتداءُ أو الانتهاءُ أو الوسطُ؟

أي: هل المرادُ: لا تُكْثِرُوا الحلفَ باللهِ؟

أو المرادُ: إذا حَلَفْتُم فلا تَحْنَثُوا؟

أو المرادُ: إذا حَلَفتُمْ فحنِثْتُمْ فلا تَتْرُكُوا الكفَّارةَ؟

الجوابُ:

المرادُ كلُّها، فتشملُ أحوالَ اليمينِ الثَّلاثةَ،

ولهذا جاء المؤلِّفُ بها في هذا البابِ؛ لأنَّ من معنى حفظِ اليمينِ عدمَ كثرةِ الحلفِ، وإليك قاعدةً مهمَّةً في هذا، وهي أن النصَّ من قرآنٍ أو سنَّةٍ إذا كانَ يَحْتَمِلُ عدةَ معانٍ لا يُنَافِي بعضُها بعضًا، ولا مُرجِّحَ لأحدِهَا، وجَبَ حملُه على المعاني كلِّها.

والمرادُ بعدمِ كثرةِ الحلفِ ما كانَ معقودًا ومقصودًا، أمَّا ما يَجْرِي على اللسانِ بلا قصدٍ، مثلَ: لا واللهِ، وبلى واللهِ في عرضِ الحديثِ، فلا مُؤَاخَذةَ فيه؛ لقولِهِ تعالى:

{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} .

وكذلك:

مِنْ حفظِ اليمينِ عدمُ الحنثِ فيها، وهذا فيه تفصيلٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم قال لعبدِ الرَّحمنِ بنِ سَمُرةَ: (( إِذا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرأَيْتَ غَيْرَها خَيرًا مِنْها فَكفِّرْ عَنْ يَمينِكَ وائْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ ) ).

فحفظُ اليمينِ في الحنثِ أن لا يَحْنَثَ إلا إذا كانَ خيرًا، وإلا فالأحسنُ حفظُ اليمينِ وعدمُ الحنثِ.

مثالُ ذلك: رجلٌ قال: واللهِ لا أكلِّمُ فلانًا.

وهو من المؤمنين الّذين يَحْرُمُ هجرُهُم، فهذا يجبُ أن يحنثَ في يمينِهِ ويُكَلِّمَه، وعليه الكفارةُ.

مثالٌ آخرُ: رجلٌ قال:

(واللهِ لأُعينَنَّ فلانًا على شيءٍ محرَّمٍ) .

فهذا يجبُ الحنثُ فيه والكفارةُ، ولا يُعِينُه؛ لقولِه تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . وإذا كانَ الأمرُ مُتَسَاوِيًا والحِنْثُ وعدمُهُ سواءٌ في الإثمِ، فالأفضلُ حفظُ اليمينِ.

كذلك:

مِن حفظِ اليمينِ إخراجُ الكفَّارةِ بعدَ الحنثِ.

والكفَّارةُ واجبةٌ فورًا؛

لأنَّ الأصلَ في الواجباتِ الفوريَّةُ؛ وهو قيامٌ بما تقتضيه اليمينُ.

والكفَّارةُ: إطعامُ عشرةِ مساكينَ من أوسطِ ما تُطْعِمون أهليكم، أو كسوتُهُم، أو تحريرُ رقبةٍ، وهذا على سبيلِ التَّخييرِ، فمَن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيّامٍ، وفي قراءةِ ابنِ مسعودٍ: {متتابعةٍ} .

فحفظُ اليمينِ له ثلاثةُ معانٍ:

الأول:

حفظُها ابتداءً، وذلك بعدمِ كثرةِ الحلفِ، ولْيَعْلَمْ أنَّ كثرةَ الحلِفِ تُضعِفُ الثقةَ بالشخصِ، وتوجبُ الشكَّ في أخبارِه.

الثاني:

حفظُهَا وسطًا، وذلك بعدمِ الحنثِ فيها، إلا ما اسْتُثْنِي كما سبقَ.

الثالث:

حفظُها انتهاءً في إخراجِ الكفَّارةِ بعدَ الحنثِ.

ويمكنُ أن يُضافَ إلى ذلك مَعْنًى رابعٌ، وهو أن لا يحلفَ بغيرِ اللهِ؛ لأنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ سمَّى القسمَ بغيرِ اللهِ حَلِفًا.

قولُهُ: (الحَلِفُ) المرادُ به الحلفُ الكاذبُ كما بيَّنَتْه روايةُ

أحمدَ: (( اليَمينُ الكَاذِبَةُ ) )أمَّا الصّادقةُ فليس لها عقوبةٌ، لكن لا يُكْثِرُ منها كما سبَقَ.

قولُه: (مَنْفَقةٌ للسِّلْعةِ) أي: ترويجٌ للسِّلعةِ، مأخوذةٌ من النِّفَاقِ وهو مُضِيُّ الشَّيءِ ونَفَاذُهُ، والحلفُ على السِّلعةِ قد يكونُ حلفًا على ذاتِهَا أو نوعِهَا أو وصفِهَا أو قيمتِهَا.

فمثال الذَّاتُ:

كأن يحلفَ أنَّها من المصنعِ الفلانيِّ المشهورِ بالجودةِ، وليست منه.

ومثال النَّوعُ:

كأنْ يحلِفَ أنَّها من الحديدِ، وهي من الخشبِ.

ومثال الصَّفةُ:

كأنْ يحلفَ أنَّها طيِّبةٌ، وهي رديئةٌ.

ومثال القيمةُ:

كأنْ يحلفَ أنَّ قيمَتَها بعشرةٍ، وهي بثمانيةٍ.

قولُهُ: (مَمْحَقَةٌ للكَسْبِ) أي: مَتْلَفةٌ له، والإتلافُ يشمَلُ الإتلافَ الحسِّيَّ؛ بأن يُسَلِّطَ اللهُ على مالِهِ ما يُتْلِفُهُ من حريقٍ أو نهبٍ أو مرضٍ يلحَقُ صاحبَ المالِ فيُتْلِفُهُ في العلاجِ، والإتلافَ المعنويَّ؛ بأنْ يَنْزِعَ اللهُ البركةَ من مالِهِ فلا ينتفعُ به؛ لا دينًا ولا دنيا، وكم من إنسانٍ عندَه مالٌ قليلٌ لكن نفَعَه اللهُ به ونفَع غيرَهُ ومَنْ وراءَه، وكم من إنسانٍ عندَه أموالٌ لكن لم ينتفعْ بها صار -والعياذُ باللهِ- بخيلاً يعيشُ عِيشةَ الفقراءِ وهو غنيٌّ؛ لأنَّ البركةَ قد مُحِقَتْ.

قولُه: (ثَلاثَةٌ) مبتدأٌ، وسوَّغَ الابتداءَ بها أنَّها أفادت التَّقسيمَ.

قولُه: (لا يُكَلِّمُهُم اللهُ)

التَّكليمُ: هو إسماعُ القولِ، وأمَّا ما يُقَدِّرُهُ الإنسانُ في نفسِهِ، فلا يُسَمَّى كلامًا على سبيلِ الإطلاقِ، وإن كانَ يُسَمَّى قولاً بالتَّقييدِ بالنَّفسِ، كقولِه تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللهُ} وقال عمرُ رَضِيَ اللهُ عَنْه في قصَّةِ السّقيفةِ: (زَوَّرْتُ في نفسي كلامًا) أي: قدَّرْتُه.

فالكلامُ عندَ الإطلاقِ لا يكونُ إلا بحرفٍ وصوتٍ مسموعٍ.

قولُه: (يُزَكِّيهِمْ) التَّزكيةُ بمعنى التَّوثيقِ، والتّعديلِ، فيومَ القيامةِ لا يُوَثِّقُهم، ولا يُعَدِّلُهُم ولا يَشْهَدُ لهم بالإيمانِ؛ لِمَا فعلوه من هذه الأفعالِ الخبيثةِ.

قولُهُ: (وَلَهُم عَذابٌ أليمٌ) عذابٌ: عقوبةٌ، وأليمٌ: أي: شديدٌ مُوجِعٌ مُؤْلِمٌ.

قوله: (أُشَيْمِطٌ) هو الَّذي اختلطَ سوادُ شَعَرِهِ ببياضِهِ لكِبَرِ سنِّه، وكبيرُ السِّنِّ قد برَدَتْ شهوتُهُ، وليس فيه ما يدعوه إلى الزِّنا، ولكنَّه زنا ممَّا دلَّ على خُبْثٍ في إرادتِهِ، ولأنَّه عادةً قد بلَغ أشُدَّه واسْتَوَى وعَرَفَ الحكمةَ، وملَكه عقلُهُ أكثرَ من هواه، فالزِّنا منه غريبٌ، إذ ليس عن شهوةٍ مُلِحَّةٍ، ولكن عن سوءِ نيَّةٍ وقصدٍ وضعفِ إيمانٍ باللهِ، فصارَ السَّببُ المقتضي لزناه ضعيفًا، والحكمةُ الَّتي نالها ببلوغِ الأَشُدِّ كبيرةً، وكان تقادُمُ سنِّه يَسْتَلْزِمُ أن يُغَلِّبَ جانبَ العقلِ، ولكنَّه خالفَ مقتضى ذلك، ولهذا صغَّرَه تحقيرًا لشأنِهِ فقال: (أُشَيْمِطٌ) تصغيرُ أشمطَ.

قولُه: (زانٍ) صفةٌ لـ (أُشَيْمِط) وهو مرفوعٌ بضمَّةٍ مقدَّرةٍ على الياءِ المحذوفةِ، والحركةُ الَّتي على النّونِ ليست حركةَ إعرابٍ.

والزِّنا: فعلُ الفاحشةِ في قُبُلٍ أو دُبُرٍ، وقد نَهَى اللهُ عنه وبيَّن أنّه فاحشةٌ، فقال: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} .

قولُه: (( وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ) )أي: فقيرٌ، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} ، فالمُقابلةُ هنا في قولِهِ: {فَأَغْنَى} بيَّنَتْ أنَّ معنى عائلاً: فقيرًا.

والاستكبارُ: التّرفُّعُ والتّعاظمُ، وهو نوعان:

الأول: استكبارٌ عن الحقِّ بأن يَرُدَّه، أو أن يَتَرَفَّعَ عن القيامِ به.

والثاني: استكبارٌ على الخلْقِ باحتقارِهِم واستذلالِهِم،

كما قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ ) ).

فالفقيرُ داعي الاستكبارِ عندَه ضعيفٌ، فيكونُ استكبارُهُ دليلاً على ضعفِ إيمانِهِ، وخُبْثِ طَوِيَّتِه، ولذلك كانت عقوبتُهُ أشدَّ.

قولُه: (( ورَجُلٌ جَعلَ اللهَ بِضاعَتَهُ؛ لا يَشْتَري إلا بيَمينِهِ ولا يبيعُ إلا بِيَمينهِ ) )أيْ: جعَلَ الحلفَ باللهِ بضاعةً له، وإنَّما ساغ التَّأويلُ هنا؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ هو الَّذي فسَّره بذلك حيثُ قال: (( لا يَشْتَري إلا بيَمينِهِ.. ) )وإذا كانَ المتكلِّمُ هو الَّذي أخرجَ كلامَهُ عن ظاهرِهِ فهو أعلمُ بمرادِهِ، وهذا كما في الحديثِ القدسيِّ: (( عَبْدِي اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْني، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِني ) )فبيَّنَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بقولِه: (( عَبْدِي فُلانٌ جاعَ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، استَسْقاكَ فَلَمْ تَسْقِهِ ) ).

فقولُه: (( لا يَشْتَرِي إلا بيمينِهِ، ولا يبيعُ إلا بيمينِهِ ) )استئنافيَّةٌ تفسيريَّةٌ لقولِه: (( جَعلََ اللهَ بِضاعَتَهُ ) )ومعناها: أنه كلما اشترى حلَف، وكلَّما باع حلَف طلبًا للكَسْبِ.

واستحقَّ هذه العقوبةَ العظيمةَ؛ لاستهانتِهِ باللهِ، فإنْ كانَ كاذبًا جمَعَ بيْنَ أربعةِ أمورٍ محذورةٍ:

الأول: استهانتِهِ باللهِ عزّ وجلّ.

الثاني: كذبِه.

الثالث: أكلِه المالَ بالباطلِ.

الرابع: أنَّ يَمينَه يَمينُ غَموسٍ،

وقد ثبَت عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أنَّه قال: (( مَنْ حَلَفَ عَلَى يمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِها مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غضْبانُ ) ).

وكلُّ ما في هذا الحديثِ يجبُ الحذرُ منه والبعدُ عنه؛ لأن هذا هو ما يُرِيدُه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من الإخبارِ بِهِ، وإلاَّ فما الفائدةُ مِن سماعِنَا له إِذَا لمْ تَظْهَرْ مُقْتَضَياتُ النّصوصِ على مُعْتَقَدَاتِنَا وأقوالِنا وأفعالِنَا؟

فنحن والجاهلُ سواءٌ، بلْ نحن أعظمُ، ولذلك لا ينبغي أن تَمُرَّ علينا بلا فائدةٍ فنَعْرِفَ معناها فقط، بل يجبُ أن نعرفَ معناها ونعملَ بمقتضاها، ثمَّ يجبُ علينا أيضًا بوصفِنَا ممَّن آتاهم اللهُ العلمَ أن نُحَذِّرَ النَّاسَ منه لنكونَ وارثين للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم، فالنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم كانَ عالِمًا عاملاً داعيًا، أمَّا طالبُ العلمِ فإنَّه ليس وارثًا للرَّسولِ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حتَّى يقومَ بما قام به من العملِ والدَّعوةِ، فعلينا أن نُحَذِّرَ إخوانَنَا المسلمين في هذا العملِ الكثيرِ بينَ النَّاسِ، وهو جعلُ اللهِ بضاعةً لهم، لا يبيعون إلا بأيْمانِهِم، ولا يَشْتَرُون إلا بأيمانِهِم.

ومناسبةُ الحديثِ للبابِ:

أنَّ مَن جعلَ اللهَ بضاعَتَه فإنَّ الغالبَ أنَّه يُكْثِرُ الحلفَ باللهِ عزَّ وجلَّ.

قولُه: (وفي الصَّحيحِ) أي: (الصَّحيحين) وانْظُرْ كلامَنَا في بابِ (تفسيرِ التوحيدِ وشهادةِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) .

قولُه: (( خَيْرُ أُمَّتي قَرْني ) ) (خَيْرُ) مبتدأٌ، و (قرني) خبرٌ.

وفي لفظِ البُخاريِّ: (( خَيْرُكُمْ قَرْني ) )وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ عندَ البخاريِّ: (( خَيْرُ النَّاسِ قَرْني ) )وهذا هو المرادُ؛ إذ المرادُ بالخيريَّةِ هنا الخيريَّةُ المضافةُ إلى النَّاسِ عمومًا، وليس للأمَّةِ فقط، ولهذا ثبَت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ أنَّه قال: (( بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرونِ بَنِي آدَمَ ) ).

وعليه فالخيريَّةُ في القرنِ الأوَّلِ خيريَّةٌ عامَّةٌ على جميعِ النَّاسِ، وليس على هذه الأمَّةِ فقط.

وأمَّا قولُه: (( خيرُ أُمَّتي ) )فإنَّه يُقالُ: إنَّ الخيريَّةَ إذا كانت مضافةً إلى عمومِ النَّاسِ دخَل فيها هذه الأمَّةُ، لكن إذا خصَّصْناها بهذه الأمَّةِ خرَج بقيَّةُ النَّاسِ، والأخذُ بالعمومِ الدَّاخلِ فيه الخاصُّ أَوْلَى، وقد يُقالُ: إنَّ معنى اللفظين واحدٌ؛ فإنَّ هذه الأمَّةَ خيرُ الأممِ، فإذا كانَ الصَّحابةُ خيرَ قرونِهَا لزِم أن يكونوا خيرَ النَّاسِ.

والقرنُ

: مأخوذٌ من الاقترانِ، والمرادُ الطَّائفةُ الْمُقتَرِنون بشيءٍ من الأشياءِ كالملَّةِ، أو السِّنِّ وما أشْبَهَ ذلك.

وبعضُ العلماءِ عرَّفه: بالطَّائفةِ كما سبق، وبعضُهُم عرَّفه بالزَّمنِ، وهؤلاء اختلفوا فيه على أقوالٍ:

-فمنهم من حَدَّهُ بأربعين.

-ومنهم من حَدَّه بثمانين.

-ومنهم مَن حدَّه بمائةٍ.

-ومنهم مَن حدَّه بمائةٍ وعشرين سنةً.

فمعنى الأولِ: يكون معنى:

(( خَيْرُ أُمَّتي قَرْني ) )خيرُ أمّتي الصَّحابةُ، سواءٌ بلَغوا مائةَ سنةٍ أم لا، والمعروفُ أنَّ آخرَ مَن مات من الصَّحابةِ مات سنةَ مائةٍ وعشرةٍ وهذا القرنُ الأوَّلُ، أمَّا التَّابعون فإنَّ آخرَهُم مات سنةَ مائةٍ وتسعين، فيكونُ بينَهم وبينَ الصَّحابةِ سبعون سنةً، وأمَّا تابعو التَّابعين فإنَّ آخرَهُم مات سنةَ مائتين وعشرين، وهذا مُنْتَهَى القرنِ الثَّالثِ.

فقرنُ الصَّحابةِ إن ابْتَدَأْتَه من البِعثةِ صار ثلاثًا وعشرين ومائةَ سنةٍ،

وإن ابْتَدَأْتَهُ من الهجرةِ صار مائةَ سنةٍ وعشر سنوات، وقرنُ التَّابعين سبعون سنةً، وقرنُ تابعي التَّابعين ثلاثون سنةً.

وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ القرنَ المُعْتَبَرُ بمعظمِ النَّاسِ فإذا كانَ معظمُ النَّاسِ الصَّحابةَ فالقرنُ قرنُهُم، وإذا كانَ معظمُ النَّاسِ التَّابعين فالقرنُ قرنُهُم، وهكذا) .

قولُه: (( أُمَّتِي ) )المرادُ أمَّةُ الإجابةِ؛ لأنَّ أمَّةَ الدَّعوةِ إذا لم يُؤْمِنُوا فليسَ فيهم خيرٌ.

قولُه: (فَلا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعدَ قرْنِهِ مرَّتينِ أوْ ثلاثًا) وإذا كانَ عِمْرَانُ لا يَدْرِي فالأصلُ أنَّه ذكَرَ مرَّتين، فتكونُ القرونُ الْمُفَضَّلةُ ثلاثةً، وهذا هو المشهورُ.

قولُه: (( ثُمَّ إنَّ بَعدَكُمْ قَوْمٌ ) )وفي روايةِ البخاريِّ: (( ثُمَّ إنَّ بعْدَكُمْ قَوْمًا ) )بنصبِ (( قومًا ) )وهذا لا إشكالَ فيه، لكن في هذه الرِّوايةِ برفعِ (( قوم ) )فيه إشكالٌ؛ لأنَّ (( قومٌ ) )اسمُ إنَّ، وقد اختلف العلماءُ في هذا:

فقيل: على لغةِ ربيعةَ الَّذين لا يَقِفون على المنصوبِ بالألفِ، فلم يُثْبِت الكاتبُ الألفَ، فصارَتْ (( قومٌ ) ).

وهذا جوابٌ ليس بسديدٍ؛ لأنَّ الرّوايةَ ليست مكتوبةً فقط، بل تُكْتَبُ وتُقْرَأُ باللفظِ عند أخذِ التَّلاميذِ الرِّوايةَ من المشايخِ، ولأنَّ هذا ليس محلَّ وَقْفٍ.

وقيل: إنَّ (إنَّ) اسمُها ضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ، فألحقَهَا بـ (إنْ) المُخَفَّفَةِ؛ لأنَّ (إنْ) المخفَّفَةَ تَعْمَلُ بِضَميرِ الشَّأنِ، قال الشَّاعرُ:

.وَإن مالكٌ كانت كرامَ المعادنِ

فـ (إنَّ) المشدَّدةُ هنا حُمِلَتْ على (إنْ) المخفَّفةِ فاسمُهَا ضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ، وعليه يكون (بعدَكم) خبرًا مقدَّمًا، و (قوم) مبتدأً مؤخَّرًا والجملةُ خبرُ (إنَّ) .

وقيل: (إن) هنا بمعنى (نعم)

فيكونُ المعنى: ثمَّ نعم بعدَكُم قومٌ، وهذا فيه تكلُّفٌ.

والظَّاهرُ: القولُ الثَّاني إن صحَّتِ الرِّوايةُ.

قولُهُ: (( يشْهَدونَ ) )أي: يُخْبِرونَ عما عَلِموه ممَّا شاهدوه، أو سمِعوه، أو لمَسوه، أو شَمُّوه؛ لأنَّ الشَّهادةَ إخبارُ الإنسانِ بما يعلمُ، قال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ولا يُشترَطُ أن تكونَ بلفظِ أشهدُ على الصَّحيحِ، وقد قيل للإمامِ أحمدَ: إنَّ فلانًا يقولُ: (إِنَّ العَشْرَةَ فِي الْجَنَّةِ، ولا أشْهَدُ) فقال: إن قاله فقد شهِدَ.

قوله: (( وَلا يُسْتَشْهَدُونَ ) )أي: لا تُطْلَبُ منهم الشَّهادةُ، واخْتَلَفَ العلماءُ في ذلك:

فقيل: (( وَلا يُسْتَشْهَدُونَ ) )أي: لا يُطْلَبُ منهم تحمُّلُ الشَّهادةِ، فيكونُ المرادُ الَّذين يشْهَدُون بغيرِ علمٍ.

وقيل: لا يُطلَبُ منهم أداءُ الشَّهادةِ،

فيكونُ المرادُ أداءَ الشَّهادةِ قبلَ أن يُدْعَى لأَدائِهَا، فيكونُ ذلك دليلاً على تسرُّعِهِم في أداءِ الشَّهادةِ وعدمِ اهتمامِهِم بها.

ولكنَّ هذا القولَ يُشْكِلُ عليه حديثُ زيدِ بنِ خالدٍ الَّذي رواه (مسلمٌ) أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم قال: (( أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخيْرِ الشُّهَداءِ! الّذي يَأْتِي بِالشَّهادةِ قَبْلَ أنْ يُسْأَلَهَا ) ).

فَهذا تَرْغيبٌ فِي أداءِ الشَّهادَةِ قبْلَ أنْ يُسْأَلَهَا؛ بدليلِ قولِهِ: (( أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخيْرِ الشُّهَداءِ! ) ). وظاهرُهُ: أنَّه مُعارِضٌ لحديثِ عِمْرَانَ، فجمَعَ بعضُ العلماءِ بينَهما بأنَّ المرادَ بحديثِ زيدٍ مَن يَشْهَدُ بحقٍّ لا يَعْلَمُهُ المشهُودُ له.

وجمعَ بعضُ العلماءِ بأنَّ المرادَ بحديثِ زيدٍ مَن يَشْهَدُ بشيءٍ من حقوقِ اللهِ تعالى؛

لأنَّ حقوقَ اللهِ تعالى ليس لها مُطَالِبٌ، فيؤدِّي الشَّهادةَ من غيرِ أن يُسْألَهَا، فيكونُ المرادُ بهم رجالَ الأمْرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المُنكَرِ ونحوَهم.

وجَمَعَ بعضُهُم بأنَّ المرادَ بحديثِ زيدِ بنِ خالدٍ أنَّه كِنايةٌ عن السُّرعةِ بأداءِ الشَّهادةِ، فكأنَّه لشدَّةِ إسراعِهِ يُؤَدِّيها قبلَ أن يُسْألَهَا.

وبعضُ العلماءِ رجَّح حديثَ عمرانَ؛ لأنَّه في (الصَّحيحين) على حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ؛ لأنَّه في (مسلمٍ) .

ولكن إذا أمكَنَ الجمعُ فلا يجوزُ التَّرجيحُ، والجمعُ هنا ممكنٌ كما تقدَّمَ.

قولُه: (( وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنونَ ) )هذا هو الوصفُ الثَّاني لهم، أي: أنَّهم أهلُ خيانةٍ وليسوا أهلَ أمانةٍ، وليس المعنى أنَّه تقعُ منهم الخيانةُ بعدَ الائتمانِ حتَّى يُقالَ لماذا لم يقلْ: يُؤْتَمَنونَ ويَخُونُونَ؛ فكأنَّ الخيانةَ طبيعةٌ لهم، فلخيانتِهِم لا يُؤْتَمنون.

الخيانةُ: الغدرُ والخداعُ في موضعِ الائتمانِ،

وهي مِن الصِّفاتِ المذمومةِ بكلِّ حالٍ.

وأمَّا المكرُ والخديعةُ، فهي مذمومةٌ في حالٍ دونَ حالٍ، فقد تكونُ محمودةً، إذا كانت في مقاتلةِ عدوٍّ ماكرٍ خادعٍ؛ لدلالتِهَا على القوَّةِ والإيقاعِ بالعدوِّ من حيثُ لا يَشْعُرُ، ولهذا يُوصَفُ اللهُ سبحانه وتعالى بالمكرِ والخداعِ في الحالِ الَّتي يكونُ فيها مَدْحًا، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ} وقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} .

وأمَّا الخيانةُ فلا يوصَفُ بها أبدًا، ولهذا كانَ قولُ العامَّةِ: (خانَ اللهُ من خانَهُ) حرامًا؛ لأنَّهم وصَفوا اللهَ بما لا يَصِحُّ أن يُوصَفَ به، قال اللهُ تعالى: {وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ولم يقلْ: فخانَهُم.

قولُه: (( ولا يُؤتَمنون ) )أي: ليسوا أهلاً للأمانةِ، فلا يؤتمنون على الدِّماءِ، ولا الأموالِ، ولا الأعراضِ، ولا أيِّ شيءٍ، والظَّاهرُ: أنَّ هذا في القرنِ الرَّابعِ، فما بالُكَ بالقرنِ الخامسَ عشرَ، وفي حديثٍ آخرَ: (( وَيَفْشُو بَيْنَهُم الكَذِبُ ) ).

قولُه: (( ويَنْذِرونَ ولا يُوفُونَ ) )هذا هو الوصفُ الثَّالثُ لهم.

النَّذرُ: إلزامُ الإنسانِ نفسَهُ بالشَّيءِ، وقد يكونُ للآدميِّ، وهذا بمعنى العهدِ الَّذي يُوقِعُه الإنسانُ بينَه وبينَ غيرِهِ، وقد يكونُ للهِ كنذرِ العبادةِ يجبُ الوفاءُ به، فهم يَنْذِرون للهِ ولا يُوفُون له، ويُعاهِدون المخلوقَ ولا يُوفُونَ له، وهذا من صفاتِ النِّفاقِ.

قولُه: (( ويَظهَرُ فيهمُ السِّمَنُ ) )هذا هو الوصفُ الرَّابعُ لهم.

السِّمنُ: كثرةُ الشَّحمِ واللحمِ،

وهذا الحديثُ مُشْكِلٌ؛ لأنَّ ظهورَ السِّمنِ ليس باختيارِ الإنسانِ، فكيف يجعلُهَا صفةَ ذمٍّ؟

قال أهلُ العلمِ: (المعنى أنَّ هؤلاء يَعْتَنُونَ بأسبابِ السِّمَن من المطاعمِ والمشاربِ، فيكونُ همُّهُم إصلاحَ أبدانِهِم وتسمينَهَا) .

أمَّا السِّمنُ الَّذي لا اختيارَ للإنسانِ فيه فلا يُذَمُّ عليه، كما لا يُذَمُّ الإنسانُ على كونِهِ طويلاً أو قصيرًا، أو أسودَ أو أبيضَ، لكن يُذَمُّ على شيءٍ يكونُ هو السَّببَ فيه.

قولُه: (وفيه) أي: في الصحيحِ، وقدْ سبَقَ الكلامُ على مثلِ هذه العبارةِ من المؤلِّفِ رحِمَه اللهُ في بابِ

(تفسيرِ التوحيدِ وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ) .

قولُه: (خيرُ النّاسِ) دليلٌ على أنَّ قرنَهُ خيرُ النَّاسِ، فصحابتُه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أفضلُ من الحَوارِيِّين الَّذين هم أنصارُ عيسى، وأفضلُ من النُّقَباءِ السَّبعين الَّذين اختارَهُم موسى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم.

قولُه: (( ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ ) )أي: بعدَ القرونِ الثَّلاثةِ.

قولُه: (( تَسْبِقُ شَهادةُ أَحَدِهِم يَمينَهُ وَيَمينُهُ، شَهَادَتَهُ ) )يَحْتَمِلُ ذلك وجهين:

الأوَّلُ:

أنَّه لقلَّةِ الثِّقةِ بهم لا يَشْهَدون إلا بيمينٍ،

فتارةً تَسْبِقُ الشَّهادةُ، وتارةً تَسْبِقُ اليمينُ.

الثَّاني:

أنَّه كنايةٌ عن كونِ هؤلاء لا يُبَالُون بالشَّهادةِ ولا باليمينِ،

حتَّى تكونَ الشَّهادةُ واليمينُ في حقِّهِم كأنَّهما متسابقتان.

والمعنيان لا يَتَنافيان، فيُحْمَلُ عليهما الحديثُ جميعًا.

وقولُهُ: (( ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ ) )يدلُّ على أنَّه ليس كلُّ أصحابِ القرنِ على هذا الوصفِ؛ لأنَّه لم يَقُلْ: ثمَّ يكونُ النَّاسُ، والفرقُ واضحٌ.

وهذه الأفضليَّةُ أفضليَّةٌ من حيثُ العمومُ والجنسُ،

لا من حيثُ الأفرادُ، فلا يعني أنَّه لا يوجَدُ في تابعي التَّابعين مَن هو أفضلُ من التَّابعين، أو لا يوجَدُ في التَّابعين مَن هو أعلمُ من بعضِ الصَّحابةِ، أمّا فضلُ الصُّحْبَةِ فلا ينالُه أحدٌ غيرُ الصَّحابةِ، ولا أحدَ يَسْبِقُهم فيه، وأمَّا العلمُ والعبادةُ فقد يكونُ فيمَن بعدَ الصَّحابةِ مَن هو أكثرُ مِن بعضِهِم علمًا وعبادةً.

تنبيهٌ:

ساقَ المؤلِّفُ -رحِمَه اللهُ- الحديثَ في بعضِ النسخِ بتَكرارِ قولِه:

(( ثمَّ الذين يلونَهُم ) )ثلاثَ مراتٍ وهو في (الصحيحين) بتَكرارِها مرتينِ.

قولُه: (( وقال إِبْرَاهيمُ ) )هو إبراهيمُ النَّخَعيُّ من التَّابعين، ومن فقهائِهِم.

قولُه: (كانوا يَضْرِبوننا عَلى الشَّهَادةِ، ونَحْنُ صِغَارٌ) في نسخةٍ: (عَلَى الشَّهادَةِ والعَهْدِ) .

والظَّاهرُ: أنَّ الَّذي يَضْرِبُهم وليُّ أمرِهِم.

وقولُه: (عَلى الشَّهادةِ) أي: يَضْرِبوننا عليها إن شَهِدْنَا زُورًا، أو إذا شَهِدْنا ولم نَقُمْ بأدائِهَا، ويَحْتَمِلُ أن المرادَ بذلك ضربُهم على المبادرةِ بالشهادةِ والعهدِ، وبه فسَّرَه ابنُ عبدِ البرِّ.

قولُه: (وَالعَهْدِ) أيْ: إذا تَعَاهَدُوا يَضْرِبُونهم على الوفاءِ بالعهدِ.

قولُه: (وَنَحْنُ صِغارٌ) الجملةُ حاليَّةٌ، وإنَّما يَضْرِبُونهم وهم صِغارٌ للتَّأديبِ.

ويُستفادُ من كلامِ إبراهيمَ أنَّ الصَّبيَّ تُقبَلُ منه الشَّهادةُ؛ لأنَّ قولَهُ: (وَنَحْنُ صِغارٌ) أي: لم يَبلُغُوا، وهذا محلُّ خلافٍ بينَ أهلِ العلمِ:

فقال بعضُهُم:

يُشترَطُ لأداءِ الشَّهادةِ أن يكونَ بالغًا،

فإذا تَحَمَّل، وهو صغيرٌ، لم تُقْبَلْ منه حتَّى يَبْلُغَ.

وقال بعضُهُم:

شهادةُ الصِّغارِ بعضِهِم على بعضٍ مقبولةٌ تَحَمُّلاً وأَداءً؛

لأنَّ البالغَ يَنْدُرُ أن يوجَدَ بين الصِّغارِ.

وقال بعضُهُم:

تُقبَلُ شهادةُ الصِّغارِ بعضِهِم على بعضٍ إن شهِدوا في الحالِ؛

لأنَّه بعدَ التَّفرُّقِ يَحْتَمِلُ النِّسيانَ، أو التَّلقينَ، ولا يَسَعُ العملُ إلا بهذا، وإلا لَضاعَتْ حقوقٌ كثيرةٌ بينَ الصِّبيانِ.

ويُستفادُ من هذا الأثرِ جوازُ ضربِ الصَّبِيِّ على الأخلاقِ إذا لم يتأدَّبْ إلا بالضَّربِ.

فيُؤخذُ منه تعظيمُ شأنِ العهدِ والشهادةِ وضربُ الصغارِ على ذلك، ويُؤخذُ منه أيضًا عنايةُ السلفِ بتربيةِ أولادِهِمْ وأنَّ مِن منهجِهِم الضربَ على تحقيقِ ذلك.

قال في (قرة عيون الموحدين) (ص:246) : (هكذا حال السلف الصالح محافظة منهم على دينهم الذي أكرمهم الله به، فلا يتركون شيئاً مما يكره إلا أنكروه، وفيه تمرين الصغار على دينهم بالتعليم) .

فيه مسائلُ:

الأولى: (الوصيَّةُ بحفْظِ الأَيْمان) تؤخذُ من قولِهِ تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} ، والأمرُ وصيَّةٌ.

الثانِيَةُ: (الإِخبارُ بأنَّ الحلفَ مَنْفَقةٌ للسِّلعةِ مَمْحَقةٌ للبركةِ) تؤخذُ من قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ للسِّلْعَةِ... ) )إلخ.

الثَّالثةُ: (الوعيدُ الشَّديدُ لِمَن لا يَبِيعُ ولا يَشْتَري إلا بيَمينِه)

تؤخذُ من قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( ورَجُلٌ جَعلََ اللهَ بِضَاعَتَهُ، لا يَشْتَري إلا بيَمينِهِ.. إلخ ) )في ضمنِ الثلاثةِ الذين لا يُكَلِّمُهم اللهُ ولا يُزَكِّيهم.

الرَّابعةُ: (التَّنبيهُ على أنَّ الذَّنبَ يَعْظُمُ مع قِلَّةِ الدَّاعي)

تؤخذُ من حديثِ سلمانَ، حيثُ ذكَرَ الأُشَيْمِطَ الزَّانيَ، والعائلَ المُسْتَكْبِرَ، وغلَّظ في عقوبتِهِم؛ لأنَّ الدَّاعيَ إلى فعلِ المعصيةِ المذكورةِ ضعيفٌ عندَهما.

الخامِسَةُ: (ذمُّ الَّذين يَحْلِفونَ ولا يُسْتَحْلَفونَ) لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( ورَجُلٌ جَعَلََ اللهَ بِضاعَتَهُ، لا يَشْتَري إلاَّ بيَمينِهِ.. ) ).

ولكن هذا ليس على إطلاقِهِ، بل النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم حلَفَ، ولم يُسْتَحْلَفْ في مواضعَ عديدةٍ، بل أمرَهُ اللهُ سبحانَهُ أن يَحْلِفَ بقولِهِ: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} .

وقولِهِ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} ، وقولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .

وعليه فإنَّ الحلفَ إذا دعَت الحاجةُ إليه، أو اقْتَضَته المصلحةُ فإنَّه جائزٌ، بل قد يكونُ مندوبًا إليه كحلفِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم في قصَّةِ الْمخزومِيَّةِ حيثُ قال: (( وايْمُ اللهِ لَوْ أنَّ فاطِمةَ بِنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يدَها ) ).

فقد وقَع مَوْقِعًا عظيمًا من هؤلاء القومِ الَّذين أهَمَّهم شأنُ المخزوميَّةِ، وممَّنْ يأتي بعدَهُم.

السَّادسةُ: (ثناؤُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على القرونِ الثَّلاثَةِ أو الأربعةِ وذكرُ ما يَحْدُثُ بعدَهم) تؤخذُ من قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: (( خيرُ النَّاسِ قَرْنِي.. ) ).

وقولُهُ: أو الأربعةِ. بناءً على ثبوتِ ذكْرِ الرابعِ، وأكثرُ الرواياتِ وأثبتُها على حذْفِه.

وقولُه:

(( وَذِكْرُ ما يَحْدُثُ ) )لو جُعِلَتْ هذه مسألةً مستقلَّةً لكان أبينَ وأوضحَ؛ لأنَّ الإخبارَ عن شيءٍ مُستقبلٍ ووُقوعِهِ كما أخبرَ دليلٌ على رسالتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.

(26) السَّابعةُ: (ذمُّ الَّذين يَشْهَدونَ ولا يُسْتَشْهَدونَ) تؤخذُ من حديثِ عِمْرانَ، وكذا ذمُّ الَّذين يخونون ولا يُؤْتَمَنون، ويَنْذِرون ولا يُوفُون، والَّذين يَتَعَاطَوْن أسبابَ السِّمَنِ يَغْفُلون عن سِمَنِ القلبِ بالإيمانِ والعلمِ.

الثَّامنةُ: (كوْنُ السَّلفِ يَضْرِبونَ الصِّغارَ على الشَّهادةِ والعهْدِ) تؤخذُ من قولِ إبراهيمَ النَّخَعِيِّ: (( كانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلى الشهادةِ والعَهْدِ ) ).

استنادًا إلى إرشادِ نبيِّهِم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حيثُ أَمَرَ بضرْبِ مَن بَلَغَ عشْرَ سنينَ على الصلاةِ،

لكِنْ يُشْتَرطُ لجوازِ الضربِ:

الأوَّلُ:

أنْ يكونَ الصغيرُ قابِلاً للتأديبِ، فلا يُضرَبُ مَن لا يعرِفُ المرادَ بالضربِ.

الثاني:

أنْ يكونَ التأديبُ مِمَّنْ له ولايةٌ عليه.

الثالثُ:

أنْ لا يُسْرَفَ في ذلك كَميَّةً أو كيفيَّةً،

أو نوعًا، أو موضِعًا، أو غيرَ ذلك.

الرابعُ:

أنْ يقَعَ من الصغيرِ ما يَسْتَحِقُّ التأديبَ عليه.

الخامسُ:

أنْ يُقْصَدَ تأديبُهُ، لا الانتقامُ لنفسِهِ،

فإنْ قصَدَ الانتقامَ لَمْ يكنْ مؤدِّبًا بل مُنْتَصِرًا.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام