وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أن تَقُومَ فِيهِ فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التَّوْبَة:108] .
عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (نَذَرَ رَجُلٌ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:(( هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ ) ).
قَالُوا: لاَ.
قَالَ: (( فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ ) ).
قَالُوا: لاَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
(( أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ ) )رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى:
تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} .
الثَّانِيَةُ:
أَنَّ الْمَعْصِيَةَ قَدْ تُؤَثِّرُ فِي الأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الطَّاعَةُ.
الثَّالِثَةُ:رَدُّ الْمَسْأَلَةِ الْمُشْكِلَةِ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْبَيِّنَةِ لِيَزُولَ الإِشْكَالُ.
الرَّابِعَةُ:
اسْتِفْصَالُ الْمُفْتِي إِذَا احْتَاجَ ذَلِكَ.
الْخَامِسَةُ:
أَنَّ تَخْصِيصَ الْبُقْعَةِ بِالنَّذْرِ لاَ بَأْسَ بِهِ إِذَا خَلاَ مِنَ الْمَوَانِعِ.
السَّادِسَةُ:
الْمَنْعُ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِيهِ وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَوْ بَعْدَ زَوَالِهِ.
السَّابِعَةُ:
الْمَنْعُ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِيهِ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ وَلَوْ بَعْدَ زَوَالِهِ.
الثَّامِنَةُ:
أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ؛ لأَِنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ.
التَّاسِعَةُ:
الْحَذَرُ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيَادِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ.
الْعَاشِرَةُ:
لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
لاَ نَذْرَ لاِبْنِ آدَمَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ.
هذا الانتقالُ مِن المؤلِّفِ منْ أحسنِ ما يكون؛ ففي البابِ السابقِ
ذَكَرَ الذَّبْحَ لغيرِ اللهِ، فنفسُ الفعلِ لغيرِ اللهِ.
وفي هذا البابِ ذكَرَ الذَّبْحَ للهِ، ولكنَّهُ في مكانٍ يُذْبَحُ فيهِ لغيرِهِ، كمَنْ يُرِيدُ أنْ يُضَحِّيَ للهِ في مكانٍ يُذبَحُ فيهِ للأصنامِ، فلا يجوزُ أنْ تُذْبَحَ فيهِ؛ لأنَّهُ مُوَافَقَةٌ للمشركينَ في ظاهرِ الحالِ، ورُبَّما أنَّ الشيطانَ أدخَلَ في قلْبِكَ نيَّةً سيِّئَةً، فيكونُ اعتقادُكَ أنَّ الذبحَ في هذا المكانِ أفضلُ، وما أشبهَ ذلكَ، وهذا خطرٌ.
قولُهُ:
{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} ضميرُ الغَيْبَةِ يعودُ إلى مسجدِ الضِّرَارِ؛ حيثُ بُنِيَ على نِيَّةٍ فاسدةٍ، قالَ تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ} .
فَالْغَرَضُ مِن اتِّخَاذِ هذا المسجدِ:
مُضَارَّةُ مسجدِ قُبَاءٍ؛
ولهذا يُسمَّى مسجدَ الضِّرارِ.
والكفرُ باللهِ؛ لأنَّهُ يُقَرَّرُ فيهِ الكفرُ والعياذُ باللهِ؛ لأنَّ الذينَ اتَّخَذُوهُ هُم المنافقونَ.
والتفريقُ بينَ المؤمنينَ؛
فبَدَلاً مِنْ أنْ يُصَلِّيَ في مسجدِ قُبَاءٍ صَفٌّ أوْ صَفَّانِ، يُصَلِّي فيهِ نصفُ صفٍّ، والباقونَ في المسجدِ الآخرِ، والشَّرعُ لهُ نظَرٌ في اجتماعِ المؤمنينَ.
والإرصادُ لِمَنْ حاربَ اللهَ ورسولَهُ.
ووجهُ المُنَاسَبةِ مِن الآيَةِ:
أنَّهُ لمَّا كانَ مسجدُ الضِّرَارِ ممَّا اتُّخِذَ للمَعَاصِي ضِرارًا وكُفرًا وتفريقًا بينَ المؤمنينَ؛ نَهى اللهُ رَسُولَهُ أنْ يقومَ فيهِ، معَ أنَّ صلاتَهُ فيهِ للهِ، فدلَّ على أنَّ كلَّ مكانٍ يُعصى اللهُ فيهِ أنَّهُ لا يُقامُ فيهِ.
فهذا المسجدُ مُتَّخَذٌ للصلاةِ لكنَّهُ محلُّ معصيَةٍ فلا تُقامُ فيهِ الصلاةُ.
وكذا لوْ أرادَ إنسانٌ أنْ يَذْبَحَ في مكانٍ يُذْبَحُ فيهِ لغيرِ اللهِ كانَ حرامًا؛ لأنَّهُ يُشْبِهُ الصلاةَ في مسجدِ الضِّرَارِ.
وقريبٌ منْ ذلكَ النهيُ عن الصلاةِ عندَ طلوعِ الشمسِ وعندَ غُروبِها؛ لأنَّهُما وَقْتَانِ يسْجُدُ فيهما الكُفَّارُ للشمسِ.
فهذا باعتبارِ الزمنِ والوقتِ، والحديثُ الذي ذكَرَهُ المؤلِّفُ باعتبارِ المكانِ.
قولُهُ: (نَذَرَ) النَّذْرُ
في اللغةِ: الإلزامُ والعهدُ.
واصطلاحًا:
إلزامُ المُكَلَّفِ نفْسَهُ للهِ شيئًا غيرَ واجبٍ.
وقالَ بعضُهم:
لا نحتاجُ أنْ نُقَيِّدَ بغيرِ واجبٍ، وأنَّهُ إذا نذَرَ الواجبَ صحَّ النذرُ، وصارَ المنذورُ واجبًا مِنْ وجْهَيْنِ؛ مِنْ جهةِ النذرِ، ومِنْ جهةِ الشرعِ.
والنذرُ في الأصلِ مكروهٌ،
بلْ إنَّ بعضَ أهلِ العلمِ يميلُ إلى تحْرِيمِهِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ نَهى عنهُ وقالَ: (( لاَ يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ) )ولأنَّهُ إلزامٌ لنفسِ الإنسانِ بما جَعلَهُ اللهُ في حِلٍّ مِنهُ، وفي ذلكَ زيادةُ تكليفٍ على نفسِهِ.
ولأنَّ الغالبَ أنَّ الذي يَنْذِرُ يَنْدَمُ، وتجِدُهُ يسألُ العلماءَ يمينًا وشمالاً يُريدُ الخلاصَ ممَّا نذَرَ لِثِقَلِهِ ومشقَّتِهِ عليهِ، ولا سيِّما ما يفْعَلُهُ بعضُ العامَّةِ إذا مَرِضَ أوْ تأخَّرَ لهُ حاجةٌ يُرِيدُها، تجدُهُ يَنْذِرُ كأنَّهُ يقولُ: إنَّ اللهَ لا يُنْعِمُ عليهِ بجَلْبِ خيرٍ أوْ دفْعِ الضَّرَرِ إلاَّ بهذا النذْرِ.
قولُهُ: (بِبُوَانَةَ) الباءُ بمعنى (فِي) وهيَ للظرفيَّةِ، والمعنى: بمكانٍ يُسمَّى بُوَانَةَ.
قولُهُ: (( هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ ) )الوثنُ: كلُّ ما عُبِدَ مِنْ دونِ اللهِ مِنْ شَجَرٍ أوْ حَجَرٍ، سواءٌ نُحِتَ أوْ لمْ يُنْحَتْ.
والصَّنمُ: يَخْتَصُّ بما صنَعَهُ الآدميُّ.
قولُهُ:
(( الْجَاهِلِيَّةِ ) )نسبةٌ إلى ما كانَ قبْلَ الرسالةِ، وسُمِّيَتْ بذلكَ؛ لأنَّهُم كانوا على جَهْلٍ عظيمٍ.
قولُهُ: (( يُعْبَدُ ) )صفةٌ لقوْلِهِ: (( وَثَنٌ ) )وهوَ بيانٌ للواقعِ؛ لأنَّ الأوثانَ هيَ التي تُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ.
قولُهُ: (قَالُوا: لا) السائلُ واحدٌ، لكنَّهُ لَمَّا كانَ عنْدَهُ ناسٌ أَجَابُوا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، ولا مانعَ أنْ يكونَ المجيبُ غيرَ السائلِ.
قولُهُ: (( عِيدٌ ) )الْعِيدُ: اسمٌ لما يعُودُ أوْ يتكَرَّرُ، والْعَوْدُ بمعنى الرجوعِ؛ أيْ: هل اعتادَ أهلُ الجاهليَّةِ أنْ يَأْتُوا إلى هذا المكانِ ويتَّخِذُوا هذا اليومَ عِيدًا وإنْ لَمْ يكُنْ فيهِ وثنٌ؟
قالُوا: لا.
فسألَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عنْ أَمْرَيْنِ: عَن الشِّركِ، ووسائِلِهِ.
فالشِّركُ: (( هلْ كانَ فيها وثَنٌ؟ ) )
ووسائِلُهُ: (( هلْ كانَ فيها عِيدٌ مِنْ أعيادِهم؟ ) )
قولُهُ:
(( أَوْفِ بِنَذْرِكَ ) )فِعْلُ أمْرٍ مبنيٌّ على حذْفِ حرْفِ العِلَّةِ (الياءِ) ، والكسرةُ دليلٌ عليها.
وهل المرادُ بهِ المعنى الحقيقيُّ، أو المرادُ بهِ الإباحةُ؟
الجوابُ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرَادَ بهِ الإباحةُ،
ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بهِ المعنى الحقيقيُّ.
فَبِالنِّسْبَةِ لنَحْرِ الإبلِ المرادُ بهِ المعنى الحقيقيُّ، وبالنسبةِ للمكانِ المرادُ بهِ الإباحةُ؛ لأنَّهُ لا يتعَيَّنُ أنْ يذْبَحَها في ذلكَ المكانِ، إذْ إنَّهُ لا يتعَيَّنُ أيُّ مكانٍ في الأرضِ إلاَّ ما تمَيَّزَ بفَضْلٍ، والمُتَمَيِّزُ بفَضْلٍ المساجدُ الثلاثةُ.
فالأمرُ هنا بالنسبةِ لنحرِ الإبلِ مِنْ حيثُ هوَ نحرٌ واجبٌ، وبالنسبةِ للمكانِ فالأمرُ للإباحةِ؛ بدليلِ أنَّهُ سأَلَ هذَيْنِ السؤالَيْنِ، فلوْ أُجيبَ بنعَمْ لقالَ: لا تُوفِ.
فإذا كانَ المقامُ يَحْتَمِلُ النَّهيَ والترخيصَ، فالأمرُ للإباحةِ.
وقولُهُ: (( أَوْفِ بِنَذْرِكَ ) )علَّلَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ذلكَ بانتفاءِ المانعِ فقالَ: (( فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ ) ).
قولُهُ: (( لاَ وَفَاءَ ) )لا نافيَةٌ للجنسِ، (( وَفَاءَ ) )اسْمُهَا، (( لِنَذْرٍ ) )خبَرُها.
قولُهُ: (( فِي مَعْصِيَةِ اللهِ ) )صفةٌ لنذرٍ؛ أيْ: لا يُمْكِنُ أنْ تُوَفِّيَ بِنذرٍ في معصيَةِ اللهِ؛ لأنَّهُ لا يُتَقَرَّبُ إلى اللهِ بمعصيَتِهِ، وليسَت المعصيَةُ مباحةً حتَّى يُقَالَ: افْعَلْهَا.
قال ابن قاسم في (حاشية كتاب التوحيد) ص105: (قوله عليه الصلاة والسلام:(( أوف بنذرك ) )دل على أن الوصف سبب الحكم، فيكون سبب الأمر بالوفاء: خلو المكان عن هذين الوصفين، فلو كان في ذلك المكان الذي نذر أن ينحر فيه وثن أو عيد؛ لمنعه ولم يستفحل في نيته، فدل على أنه لا عبرة هنا بالنية، فلما خلا من الموانع أمره أن يوفي بنذره، وذلك في حجة الوداع)
وأقسامُ النَّذْرِ ستة:
الأوَّلُ:
ما يَجِبُ الوفاءُ بهِ،
وهوَ نذْرُ الطاعةِ؛ لقوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ ) ).
الثاني:
ما يحْرُمُ الوفاءُ بهِ،
وهوَ نذْرُ المعصيَةِ؛ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِهِ ) )وقوْلِهِ: (( فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ ) ).
الثالثُ:
ما يَجْرِي مَجْرَى اليمينِ،
وهوَ نذْرُ الْمُباحِ، فيُخَيَّرُ بينَ فِعْلِهِ وَكَفَّارةِ اليمينِ، مثلُ: لوْ نذَرَ أنْ يَلْبَسَ هذا الثوبَ، فإنْ شاءَ لبِسَهُ، وإنْ شاءَ لَمْ يلْبَسْهُ وكفَّرَ كفَّارةَ يمينٍ.
الرابعُ:
نَذْرُ اللِّجَاجِ والغضبِ.
وسُمِّيَ بهذا الاسمِ؛
لأنَّ اللِّجَاجَ والغضبَ يَحْمِلانِ عليهِ غالبًا، وليسَ بلازمٍ أنْ يكونَ هناكَ لِجَاجٌ وغضَبٌ، وهوَ الذي يُقْصَدُ بهِ معنى اليمينِ؛ الحثُّ أو المنعُ أو التصديقُ أو التكذيبُ.
مثلُ لوْ قالَ: حصَلَ اليومَ كذا وكذا.
فقالَ الآخَرُ: لمْ يحْصُلْ.
فقالَ: وإنْ كانَ حاصِلاً فَعَلَيَّ للهِ نَذْرٌ أنْ أصومَ سنةً، فالغرضُ مِنْ هذا النذْرِ التكذيبُ.
فإذا تبيَّنَ أنَّهُ حاصلٌ فالنَّاذِرُ مُخَيَّرٌ بينَ أنْ يصومَ سنةً، وبينَ أنْ يُكفِّرَ كفَّارةَ يمينٍ؛ لأنَّهُ إنْ صامَ فقدْ وَفَّى بنذْرِهِ، وإنْ لمْ يصُمْ حَنِثَ، والحانِثُ في اليمينِ يُكَفِّرُ كفَّارةَ يمينٍ.
الخامسُ:
نذْرُ المكْرُوهِ،
فيُكْرَهُ الوفاءُ بهِ وعليهِ كفَّارةُ يمينٍ.
السادسُ:
النذرُ المُطْلَقُ،
وهوَ الذي ذُكِرَ فيهِ صيغةُ النَّذْرِ، مثلُ أنْ يقولَ: للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ.
فهذا كفَّارَتُهُ كفَّارَةُ يمينٍ، كما قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمِّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ) ).
مسألةٌ:
هلْ يَنْعَقِدُ نذْرُ المعصيَةِ؟
الجوابُ:
نَعَمْ ينْعَقِدُ؛ ولهذا قالَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِهِ ) )ولوْ قالَ: مَنْ نَذَرَ أنْ يعصيَ اللهَ فلا نَذْرَ لهُ، لكانَ لا ينْعَقِدُ.
ففي قولِهِ: (( فَلاَ يَعْصِهِ ) )دليلٌ على أنَّهُ يَنْعَقِدُ، لَكِنْ لا يُنَفَّذُ.
وإذا انْعَقَدَ هلْ تلْزَمُهُ كفَّارةٌ أوْ لا؟
اختلفَ في ذلكَ أهلُ العلمِ، وفيها روايتانِ عن الإمامِ
أحمدَ.
فقالَ بعضُ العلماءِ:
إنَّهُ لا تَلْزَمُهُ الكفَّارةُ،
واستدَلُّوا بقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ ) )وبقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (( وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِهِ ) )ولَمْ يذكُر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كفَّارةً، ولوْ كانَتْ واجبةً لذَكرَها.
القولُ الثاني:
تجبُ الكفَّارةُ،
وهوَ المشهورُ مِن المذهبِ؛ لأنَّ الرسولَ ذَكَرَ في حديثٍ آخرَ غيرِ الحديثيْنِ أنَّ كفَّارَتَهُ كفَّارةُ يمينٍ، وكوْنُ الأمرِ لا يُذْكَرُ في حديثٍ لا يقْتَضِي عدَمَهُ، فعدَمُ الذِّكرِ ليْسَ ذِكرًا للعدمِ.
نَعَمْ لوْ قالَ الرسولُ: لا كَفَّارةَ، صارَ في الحديثَيْنِ تعارضٌ، وحينئذٍ نطْلُبُ الترجيحَ، لكنَّ الرسولَ لمْ يَنْفِ الكفَّارةَ بلْ سَكَتَ، والسُّكوتُ لا يُنافي المنطوقَ.
فالسكوتُ وعدَمُ الذِّكْرِ يكونُ اعتمادًا على ما تقدَّمَ، فإنْ كانَ الرسولُ قالَهُ قَبلْ أنْ يَنْهَى هذا الرجلَ فاعتمادًا عليهِ لَمْ يقُلْهُ؛ لأنَّهُ ليسَ بلازمٍ أنَّ كُلَّ مسألةٍ فيها قيْدٌ أوْ تخصيصٌ يذْكُرُها الرسولُ عندَ كلِّ عُمُومٍ، فلوْ كانَ يلْزَمُ هذا لكثر المنقول من السُّنَّةُ، لكنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إذا ذَكَرَ حديثًا عامًّا ولهُ ما يُخَصِّصُهُ حُمِلَ عليهِ، وإذا سكَتَ عَن شيءٍ وقدْ نَطَقَ بهِ في مكانٍ آخرَ حُمِلَ عليهِ.
وأيضًا مِنْ حيثُ القياسُ،
لوْ أنَّ الإنسانَ أقسَمَ ليفعلَنَّ مُحَرَّمًا وقالَ: واللهِ لأفعَلَنَّ هذا الشيءَ، وهوَ مُحَرَّمٌ فلا يفْعَلْهُ، ويُكَفِّرُ كفَّارةَ يمينٍ، معَ أنَّهُ أقْسَمَ على فِعْلِ مُحَرَّمٍ، والنَّذْرُ شبيهٌ بالقسَمِ، وعلى هذا فكفَّارَتُهُ كفَّارَةُ يمينٍ، وهذا القولُ أصَحُّ.
قولُهُ:
(( وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ ) )الَّذِي لا يمْلِكُهُ ابنُ آدمَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
الأوَّلُ:
ما لا يمْلِكُ فعْلَهُ شرعًا،
كما لوْ قالَ: للهِ عَلَيَّ أنْ أعتقَ عبدَ فُلانٍ، فلا يصحُّ؛ لأنَّهُ لا يمْلِكُ إعتاقَهُ.
الثاني:
ما لا يملكُ فعْلَهُ مُقَدَّرًا،
كما لوْ قالَ: للهِ عَلَيَّ نذْرٌ أنْ أطيرَ بيدَيَّ، فهذا لا يصحُّ؛ لأنَّهُ لا يمْلِكُهُ. والفقهاءُ رحِمَهُم اللهُ يُمَثِّلُونَ بمثلِ هذا المستحيلِ.
ويُستفادُ مِن الحديثِ:
أنَّهُ لا يُذْبَحُ بمكانٍ يُذْبَحُ فيهِ لغيرِ اللهِ، وهوَ ما ساقَهُ المُؤَلِّفُ منْ أجْلِهِ، والحكمةُ مِنْ ذلكَ ثلاثة أمور:
الأوَّلُ:
أنَّهُ يُؤَدِّي إلى التشَبُّهِ بالكُفَّارِ.
الثاني:
أنَّهُ يُؤَدِّي إلى الاغترارِ بهذا الفعلِ؛
لأنَّ مَنْ رَآكَ تَذْبَحُ بمكانٍ يَذْبَحُ فيهِ المشركونَ ظنَّ أنَّ فِعْلَ المشركينَ جائزٌ.
الثالثُ:
أنَّ هؤلاءِ المشركينَ سوفَ يَقْوَوْنَ عَلى فِعْلِهِم إذا رَأَوْا مَنْ يفْعلُ مثلَهم.
ولا شكَّ أنَّ تقويَةَ المشركينَ مِن الأمورِ المحظورةِ، وإغاظَتَهُم مِن الأعمالِ الصالحةِ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} .
فيهِ مسائلُ:
الأُولى:
(تفسيرُ قوْلِهِ: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}
)وقدْ سبَقَ ذلكَ في أوَّلِ البابِ.
الثانيَةُ: (أنَّ المعصيَةَ قدْ تُؤَثِّرُ في الأرضِ، وكذلكَ الطاعةُ)
أيْ: لمَّا كانَتْ هذهِ الأرضُ مكانَ شِرْكٍ حُرِّمَ أنْ يَعْمَلَ الإنسانُ ما يُشْبِهُ الشِّركَ فيها لمُشَابَهةِ المشركينَ.
أمَّا بالنسبةِ للصلاةِ في الكنيسةِ، فإنَّ الصلاةَ تُخَالِفُ صلاةَ أهلِ الكنيسةِ، فلا يكونُ الإنسانُ مُتَشَبِّهًا بهذا العملِ، بخلافِ الذَّبْحِ في مكانٍ يُذْبَحُ فيهِ لغيرِ اللهِ؛ فإنَّ الفعلَ واحدٌ بنوعِهِ وجِنْسِهِ. ولهذا لوْ أرادَ إنسانٌ أنْ يُصَلِّيَ في مكانٍ يُذبحُ فيهِ لغيرِ اللهِ لجازَ ذلكَ؛ لأنَّهُ ليسَ مِنْ نوعِ العبادةِ التي يفْعَلُها المشركونَ في هذا المكانِ.
وكذا الطاعةُ تُؤَثِّرُ في الأرضِ؛
ولهذا فإنَّ المساجدَ أفضلُ مِن الأسواقِ، والقديمُ منها أفضلُ من الجديدِ.
الثالثةُ: (ردُّ المسألةِ المُشْكِلَةِ إلى المسألةِ الْبَيِّنَةِ لِيَزُولَ الإشْكَالُ)
فالمَنْعُ مِن الذَّبحِ في هذا المكانِ أمرٌ مُشْكِلٌ، لكنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بيَّنَ ذلكَ بالاستفصالِ.
الرابعةُ: (اسْتِفْصَالُ الْمُفْتِي إذا احتاجَ إلى ذلكَ)
لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ اسْتَفْصَلَ، لكنْ هلْ يجبُ الاستفصالُ على كلِّ حالٍ، أوْ إذا وُجِدَ الاحتمالُ؟
الجوابُ:
لا يَجِبُ إلاَّ إذا وُجِدَ الاحتمالُ؛
لأنَّنا لو استفْصَلْنا في كلِّ مسألةٍ لطالَ الأمرُ.
فمثلاً؛
لوْ حصَلَ سُؤَالٌ عنْ مسألةٍ في البيعِ، ثمَّ استفْصَلْنا عن الثمنِ هلْ هوَ معلومٌ، وعن المُثَمَّنِ هلْ هوَ معلومٌ، وهلْ وقعَ البيعُ مُعَلَّقًا أوْ غيرَ مُعَلَّقٍ، لطالَ الأمرُ.
أمَّا إذا وُجِدَ الاحتمالُ فيجبُ الاستفصالُ،
مثلُ: أنْ يَسْأَلَ عنْ رجُلٍ ماتَ عنْ بِنْتٍ، وأخٍ، وعمٍّ شقيقٍ، فيجبُ الاستفصالُ عن الأخِ هلْ هوَ شقيقٌ أوْ لأمٍّ؟
فإنْ كانَ لأُمٍّ سقَطَ، وأخذَ الباقيَ العمُّ، وإلاَّ سقَطَ العمُّ وأخذَ الباقيَ الأخُ.
الخامسةُ: (أنَّ تخصيصَ البُقْعَةِ بالنَّذْرِ لا بأسَ بهِ إذا خلا من الموانعِ)
لقوْلِهِ: (( أَوْفِ بِنَذْرِكَ ) ).
وسواءٌ كانتْ هذهِ الموانعُ واقعةً أوْ مُتَوَقَّعَةً.
فالواقعةُ:
أنْ يكونَ فيها وثَنٌ
أوْ عيدٌ مِنْ أعيادِ الجاهليَّةِ.
والمُتَوَقَّعَةُ:
أنْ يُخْشَى مِن الذَّبحِ
في هذا المكانِ تعْظِيمُهُ؛ فإذا خُشِيَ كانَ ممنوعًا، مثلُ: (لوْ أرادَ أنْ يَذْبَحَ عندَ جبلٍ) فالأصلُ أنَّهُ جائزٌ، لكنْ لوْ خُشِيَ أنَّ العوَامَّ يعتقدونَ أنَّ في هذا المكانِ مَزِيَّةً، كانَ ممنوعًا.
السادسةُ: (المنعُ منهُ إذا كانَ فيهِ وَثنٌ مِنْ أوثانِ الجاهليَّةِ ولوْ بعدَ زوالِهِ)
لقولِهِ: (( هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ ) )لأنَّ (( كَانَ ) )فِعلٌ ماضٍ، والمحظورُ بعدَ زوالِ الوثنِ باقٍ؛ لأنَّهُ رُبَّمَا يُعادُ.
(11) السابعةُ: (المنعُ منهُ إذا كانَ فيهَا عيدٌ مِنْ أعيادِهم ولوْ بعدَ زوالِهِ)
لقولِهِ: (( فَهَلْ كَانَ فِيها عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ ) ).
الثامنةُ: (أنَّهُ لا يجوزُ الوفاءُ بما نذَرَ في تلكَ البقعةِ؛ لأنَّهُ نذْرُ معصيَةٍ)
لقولِهِ: (( فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةِ اللهِ ) ).
التاسعةُ: (الحذَرُ مِنْ مشابهةِ المشركينَ في أعيادِهم ولوْ لَمْ يقْصِدْهُ)
وقدْ نصَّ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ على أنَّ حصولَ التَّشَبُّهِ لا يُشترطُ فيهِ القصدُ، فإنَّهُ يُمنعُ منهُ ولوْ لمْ يقْصِدْهُ، لكنْ معَ القصدِ يكونُ أشدَّ إثمًا؛ ولهذا قالَ شيخُ الإسلامِ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (ولوْ لمْ يقْصِدْهُ) .
العاشرةُ: (لا نَذْرَ في معصيَةِ اللهِ)
هكذا قالَ المؤلِّفُ، ولفظُ الحديثِ المذكورِ: (( لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ ) )وبيْنَهُما فرقٌ، فإذا كانت العبارةُ (لا نَذْرَ في معصيَةٍ) فالمعنى أنَّ النذْرَ لا ينْعَقِدُ، وإذا كانَ (لاَ وَفَاءَ) فالمعنى أنَّ النذرَ يَنْعَقِدُ لكنْ لا يُوَفَّى، وقدْ وردَت السُّنَّةُ بهذا وبهذا.
لكن (لا نَذْرَ) يُحْمَلُ على أنَّ المرادَ لا وفاءَ لنذرٍ؛ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: (( وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِهِ ) ).
الحاديَةَ عَشْرَةَ: (لا نذْرَ لابنِ آدمَ فيما لا يمْلِكُ)
يُقَالُ فيهِ ما قيلَ في (لا نَذْرَ في معصيَةٍ) .
والمعنى: لا وفاءَ لنذرٍ فيما لا يملِكُ ابنُ آدمَ، ويشملُ ما لا يمْلِكُهُ شَرعًا، وما لا يَملِكُهُ قدَرًا.