رَوَى مُسْلِمٌ فِي (صَحِيحِهِ) عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ) ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ) )رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَلِلأَرْبَعَةِ وَالْحَاكِمِ -وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا- عَنْ: (( مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ) ).
وَلأَِبِي يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ مَوْقُوفًا.
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ) )رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي (الأَوْسَطِ) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ قَوْلِهِ: (( وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا ... ) )إلى آخره.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: (الْعَرَّافُ: الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُمُورِ بِمُقَدِّمَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى الْمَسْرُوقِ وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) .
وَقِيلَ: هُوَ الْكَاهِنُ، وَالْكَاهِنُ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقِيلَ: الَّذِي يُخْبِرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: (الْعَرَّافُ: اسْمٌ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْرِفَةِ الأُمُورِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ يَكْتُبُونَ أَبَاجَادٍ وَيَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ: (مَا أَرَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلاَقٍ ) .
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ تَصْدِيقُ الْكَاهِنِ مَعَ الإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ.
الثَّانِيةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ.
الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ مَنْ تُكُهِّنَ لَهُ.
الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ مَنْ تُطُيِّرَ لَهُ.
الْخَامِسَةُ: ذِكْرُ مَنْ سُحِرَ لَهُ.
السَّادِسَةُ: ذِكْرُ مَنْ تَعَلَّمَ أباجاد.
السَّابِعَةُ: ذِكْرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَاهِنِ وَالْعَرَّافِ.
(1) (الكُهَّانُ)
جمعُ كاهنٍ، والكَهَنَةُ أيضًا جمعُ كاهنٍ، وهمْ قومٌ يكونونَ في أحياءِ العربِ يتحاكمُ الناسُ إليهمْ، وتتَّصِلُ بِهم الشياطينُ، وتُخْبِرُهم عمَّا كانَ في السماءِ، تَسْتَرِقُ السمعَ مِن السماءِ، وتُخْبِرُ الكاهنَ بهِ، ثَمَّ الكاهنُ يُضِيفُ إلى هذا الخبرِ ما يُضِيفُ مِن الأخبارِ الكاذبةِ ويُخْبِرُ الناسَ، فإذا وقعَ ممَّا أخْبَرَ بهِ شيءٌ اعتقَدَهُ الناسُ عالمًا بالغيبِ، فصاروا يتحاكمونَ إليْهِم، فهمْ مَرْجِعٌ للناسِ في الحُكْمِ، ولهذا يُسَمَّوْنَ الكهنةَ إذْ همْ يُخْبِرُونَ عَن الأمورِ في المستقبلِ، يقولونَ: سيقعُ كذا وسيقعُ كذا.
قال في (تيسير العزيز الحميد) ص409: ( اعلم أن الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم، لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية؛ لأن الله حرس السماء بالشهب، ولم يبقى من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب) .
ولَيْسَ مِن الكَهَانةِ في شيءٍ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ أمورٍ تُدْرَكُ بالحسابِ؛ فإنَّ الأمورَ التي تُدْرَكُ بالحسابِ لَيْسَتْ مِن الكهانةِ في شيءٍ، كَمَا لوْ أخْبَرَ عَنْ كسوفِ الشمسِ أوْ خسوفِ القمرِ، فهذا لَيْسَ مِن الكهانةِ؛ لأنَّهُ يُدْرَكُ بالحسابِ، وكما لوْ أخبَرَ أنَّ الشمسَ تَغْرُبُ في مِنَ بُرْجِ الميزانِ مثلاً، في الساعةِ كذا وكذا، فهذا لِيْسَ مِنْ عِلْمِ الغيبِ.
وكما يقولونَ: (إنَّهُ سيخرجُ في أوَّلِ العامِ أو العامِ الذي بعدَهُ مُذَنَّبُ(هالي) ، وهو نجمٌ لهُ ذَنَبٌ طويلٌ) فهذا لَيْسَ مِن الكهانةِ في شيءٍ؛ لأنَّهُ مِن الأمورِ التي تُدْرَكُ بالحسابِ، فكلُّ شيءٍ يُدْرَكُ بالحسابِ، فإنَّ الإخبارَ عَنْهُ ولوْ كانَ مستقبلاً لا يُعْتَبرُ مِنْ عِلْمِ الغيبِ، ولا مِن الكهانةِ.
قولُهُ: (( مَنْ ) )شرطيَّةٌ فهيَ للعمومِ.
والعرَّافُ: صيغةُ مبالغةٍ مِن العارفِ، أوْ نسبةٌ، أيْ: مَنْ ينتسبُ إلى العرافةِ.
والعرَّافُ قيلَ: هوَ الكاهنُ، وهو الذي يُخْبِرُ عَن المستقبلِ.
وقيلَ:
هوَ اسمٌ عامٌّ للكاهنِ والمُنَجِّمِ والرَّمَّالِ ونحوِهم ممَّنْ يَسْتَدِلُّ على معرفةِ الغيبِ بمُقَدِّمَاتٍ يستعملُها، وهذا المعنى أعمُّ، ويدلُّ عليهِ الاشتقاقُ؛ إذْ هوَ مشتَقٌّ مِن المعرفةِ، فيشملُ كلَّ مَنْ تعاطى هذهِ الأمورَ وادَّعى بها المعرفةَ.
قولُهُ: (( فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ) )ظاهرُ الحديثِ أنَّ مُجَرَّدَ سُؤَالِهِ يُوجِبُ عدَمَ قبولِ صلاتِهِ أربعينَ يومًا، ولكنَّهُ لَيْسَ على إطلاقِهِ.
فسؤالُ العرَّافِ ونحوِهِ ينقسمُ إلى أقسامٍ:
القسمُ الأوَّلُ:
أنْ يسألَهُ سؤالاً مُجرَّدًا، فهذا حرامٌ؛ لقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَنْ أَتَى عَرَّافًا... ) )فإثباتُ العقوبةِ على سؤالِهِ يدلُّ على تحريمِهِ؛ إذْ لا عقوبةَ إلاَّ على فعلٍ مُحرَّمٍ.
القسمُ الثاني:
أنْ يسألَهُ فيُصَدِّقَهُ، ويَعْتَبِرَ قولَهُ، فهذا كفرٌ؛ لأنَّ تصديقَهُ في علمِ الغيبِ تكذيبٌ للقرآنِ، حيثُ قالَ تعالى: { قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ } .
القسمُ الثالثُ: أنْ يسألَهُ ليختبرَهُ، هَلْ هوَ صادقٌ أوْ كاذبٌ، لا لأجْلِ أنْ يأخذَ بقولِهِ، فهذا لا بأسَ بهِ، ولا يدخلُ في الحديثِ.
وقَدْ سألَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
ابنَ صَيَّادٍ فقالَ:
(( مَاذَا خَبَّأْتُ لَكَ؟ ) ).
قَالَ: الدُّخْ.
فقالَ: (( اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ ) ).
فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سألَهُ عَنْ شَيْءٍ أضْمَرَهُ لهُ؛ لأجْلِ أنْ يختبرَهُ، فأخبرَهُ بهِ.
القسمُ الرابعُ:
أنْ يسألَهُ ليُظْهِرَ عجزَهُ وكذبَهُ،
فيمتحنَهُ في أمورٍ يتبيَّنُ بها كذِبُه وعجْزُهُ، وهذا مطلوبٌ وقدْ يكونُ واجبًا.
وإبطالُ قولِ الكهنةِ لا شكَّ أنَّهُ أمرٌ مطلوبٌ،
وقدْ يكونُ واجبًا، فصارَ السؤالُ هنا لَيْسَ على إطلاقِهِ، بِلْ يُفَصَّلُ فيهِ هذا التفصيلُ على حَسَبِ ما دلَّتْ عليهِ الأدلَّةُ الشرعيَّةُ الأخرى.
وقدْ أخْبَرَ شيخُ الإسلامِ عَنْهُمْ، أنَّ الجنَّ يَخْدِمُونَ الإنسَ في أمورٍ، والكُهَّانَ يستخدِمُونَ الجنَّ، ليأْتُوهُم بخبرِ السماءِ، فيُضِيفُونَ إليه مِن الكذِبِ ما يضيفونَ.
وخدمةُ الجنِّ للإنسِ ليْسَتْ مُحَرَّمةً على كلِّ حالٍ، بَلْ هيَ على حَسَبِ الحالِ.
فالجِنِّيُّ يخدمُ الإنسَ في أمورٍ لمصلحةِ الإنسِ، وقدْ يكونُ للجنِّ فيها مصلحةٌ، وقدْ لا يكونُ لهُ فيها مصلحةٌ؛ بَلْ لأنَّهُ يُحِبُّهُ في اللهِ ولِلَّهِ، ولا شكَّ أنَّ مِن الجنِّ مؤمنينَ يُحِبُّونَ المؤمنينَ مِن الإنسِ؛ لأنَّهُ يجمعُهُم الإيمانُ باللهِ.
وقدْ يخدِمُونَهم لطاعةِ الإنسِ لهُم فيما لا يُرْضِي اللهَ عزَّ وجلَّ؛ إمَّا في الذَّبْحِ لهم، أوْ في عبادتِهِم، أوْ ما أَشْبَهَ ذلِكَ.
والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حضرَ إليهِ الجنُّ وخاطبَهم، وأرْشَدَهُم، ووعَدَهُم بعطاءٍ لا نظيرَ لهُ، فقالَ لهُم: (( كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ تَجِدُونَهُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ فَهِيَ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ ) ).
وذُكِرَ أنَّ في عهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ امرأةً لها رِئْيٌ مِن الجنِّ، وكانَتْ تُوصِيهِ بأشياءَ، حتَّى إنَّهُ تَأَخَّرَ عُمَرُ ذاتَ يومٍ، فأَتَوْا إليها فقالوا: ابْحَثِي لنا عنهُ، فذهبَ هذا الجنِّيُّ الذي فيها، وبحَثَ وأخبرَهم أنَّهُ في مكانِ كذا، وأنَّهُ يَسِمُ إِبِلَ الصدقةِ.
وقولُهُ: (( فَصَدَّقَهُ ) )لَيْسَتْ في (صحيحِ مسلمٍ) ، بَل الذي في (مسلمٍ) : (( فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ) )وزيادَتُها في نَقْلِ المؤلِّفِ، إمَّا أنَّ النسخَةَ التي نقلَ مِنها بهذا اللفظِ (( فَصَدَّقَهُ ) )أوْ أنَّ المؤلِّفَ عَزَاهُ إلى مسلمٍ باعتبارِ أصلِهِ، فأخَذَ مِنْ (مسلمٍ) (( فَسَأَلَهُ ) )وأخذَ مِنْ أحمدَ (( فَصَدَّقَهُ ) ).
قولُهُ: (( لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ) )نفيُ القبولِ هنا هلْ يَلْزَمُ منهُ نفيُ الصحَّةِ أوْ لا؟
نقولُ:
نفيُ القبولِ إمَّا أنْ يكونَ لفَوَاتِ شرطٍ، أوْ لوجودِ مانعٍ، ففي هاتيْنِ الحالينِ يكونُ نفيُ القبولِ نفيًا للصحَّةِ، كما لوْ قُلْتَ: مَنْ صلَّى بغيرِ وُضُوءٍ لمْ يَقْبَل اللهُ صلاتَهُ، ومَنْ صلَّى في مكانٍ مغصوبٍ لم يَقْبَل اللهُ صلاتَهُ، عَنْدَ مَنْ يَرى ذلِكَ.
وإنْ كانَ نفيُ القبولِ لا يتعلَّقُ بفواتِ شرطٍ ولا وجودِ مانعٍ،
فلا يلْزَمُ مِنْ نفيِ القبولِ نفيُ الصحَّةِ، وإنَّما يكونُ المرادُ بالقبولِ المنفِيَّ:
إمَّا نفيُ القبولِ التامِّ،
أيْ: لمْ تُقْبَلْ على وجهِ التمامِ الذي يحْصُلُ بِهِ تمامُ الرِّضا وتمامُ المثُوبَةِ.
وإمَّا أنْ يُرَادَ بهِ أنَّ هذه السيِّئَةَ التي فعلَها تُقَابِلُ تِلْكَ الحسنةَ في الميزانِ فتُسْقِطُها، ويكونُ وِزْرُها موازيًا لأجرِ تِلْكَ الحسنةِ، وإذا لمْ يكُنْ لهُ أجرٌ صارَتْ كأنَّها غيرُ مقبولةٍ، وإنْ كانَتْ مُجْزِئَةً ومُبْرِئَةً للذِّمَّةِ، لكنَّ الثوابَ الذي حصلَ بِها قُوبِلَ بالسيِّئَةِ فأسقَطَتْهُ.
ومثلُهُ قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ) ).
وقولُهُ: (( أَرْبَعينَ يَوْمًا ) )تخصيصُ هذا العددِ لا يُمْكِنُنا أنْ نُعَلِّلَهُ؛ لأنَّ الشيءَ المقدَّرَ بعددٍ لا يستطيعُ الإنسانُ غالبًا أنْ يعْرِفَ حكْمَتَهُ، فكونُ الصلاةِ خمسَ صلواتٍ أوْ خمسينَ لا نعلمُ لماذا خُصِّصَتْ بذلِكَ، فهذا مِن الأمورِ التي يُقْصَدُ بِها التعبُّدُ للهِ، والتعبُّدُ للهِ بما لا تُعرفُ حكمَتُهُ أبْلَغُ مِن التعبُّدِ لهُ بما تُعْرَفُ حكمتُهُ، فعَلَيْنَا التسليمُ والانقيادُ وتفويضُ الأمرِ إلى اللهِ تعالى.
ويُؤْخَذُ مِن الحديثِ: تحريمُ إتيانِ العرَّافِ وسؤَالِهِ؛
إلاَّ ما استُثْنِيَ كالقسمِ الثالثِ والرابعِ؛ لِمَا في إتيانِهم وسؤالِهِم مِن المفاسدِ العظيمةِ، التي تَرَتَّبُ على تشجِيعِهِم وإغراءِ الناسِ بِهم. وهُمْ في الغالبِ يأتونَ بأشياءَ كلُّها باطلةٌ.
قولُهُ:
(( مَنْ أَتَى كَاهِنًا ) )تقدَّمَ معنى الكُهَّانِ، وأنَّهم كانوا رجالاً في أحياءِ العربِ تَنْزِلُ عليهم الشياطينُ، وتُخْبِرُهم بما سَمِعَتْ مِنْ أخبارِ السماءِ.
قولُهُ: (( فَصَدَّقَهُ ) )أيْ: نَسَبَهُ إلى الصِّدْقِ وقالَ: إنَّهُ صادقٌ، وتصديقُ الخبرِ بمعنى تثْبِيتِهِ وتحقيقِهِ، فقالَ: هذا حقٌّ وصحيحٌ وثابتٌ.
قولُهُ: (( بِمَا يَقُولُ ) ) (ما) عامَّةٌ في كلِّ ما يقولُ، حتَّى ما يَحْتَمِلُ أنَّهُ صِدْقٌ، فإنَّهُ لا يجوزُ أنْ يُصَدِّقَهُ؛ لأنَّ الأصلَ فيهم الكذِبُ.
قولُهُ: (( فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) )أيْ: بالَّذِي أُنْزِلَ، والذي أُنْزِلَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ القرآنُ، أُنزلَ إليهِ بواسطةِ جبريلَ، قالَ تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ } وقالَ تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } .
وقولُهُ: (( بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) )ذكَرَ أهلُ السنَّةِ أنَّ كلَّ كلمةٍ وُصِفَ فيها القرآنُ بأنَّهُ مُنَزَّلٌ أوْ أُنزِلَ مِن اللهِ، فهيَ دالَّةٌ على عُلُوِّ اللهِ سبحانَهُ وتعالى بذاتِهِ، وعلى أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ؛ لأنَّ النزولَ يكونُ مِنْ أعلى، والكلامَ لا يكونُ إلاَّ مِن المتكلِّمِ بِهِ.
وقولُهُ: (( كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) )وجهُ ذلِكَ أنَّ ما أُنْزِلَ على محمَّدٍ قالَ اللهُ تعالى فيهِ: { قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ } وهذا مِنْ أقْوَى طُرُقِ الحصرِ؛ لأنَّ فيهِ النفيَ والإثباتَ، فالذي يُصَدِّقُ الكاهنَ في علمِ الغيبِ وهوَ يعلمُ أنَّهُ لا يعلمُ الغيبَ إلاَّ اللهُ فهوَ كافرٌ كُفْرًا أكبرَ مُخْرِجًا عَن الملَّةِ، وإنْ كانَ جاهلاً ولا يعتقدُ أنَّ القرآنَ فيهِ كذبٌ فكفرُهُ كفرٌ دونَ كُفْرٍ.
قولُهُ: (( وَلِلأَرْبَعَةِ والحاكمِ ) )الأربعةُ هُمْ: أبو داودَ، والنَّسَائِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَةَ.
والحاكمُ ليسَ مِنْ أهلِ السُّنَنِ، لكنْ لهُ كتابٌ سُمِّيَ (صحيحَ الحاكمِ) .
قولُهُ: (( صحيحٌ علَى شَرْطِهِما ) )أيْ: شرْطِ البخاريِّ ومسلمٍ، لكنَّ قولَهُ على شرْطِهِما هذا على ما يَعْتَقِدُ، وإلاَّ فَقَدْ يكونُ الأمرُ على خلافِ ذلِكَ.
ومعنى قولِهِ: (( على شرْطِهِما ) )أيْ: أنَّ رجالَهُ رجالُ (الصحيحيْنِ) ، وأنَّ ما اشترَطَهُ البخاريُّ ومسلمٌ موجودٌ فيهِ.
قولُهُ:
(( مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا ) ) (( أوْ ) )يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ للشكِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ للتنويعِ، فالحديثُ الأوَّلُ بلفظِ (( عَرَّافٍ ) )والثاني بلفظِ (( كَاهِنٍ ) )والثالثُ جَمَعَ بينَهُما، فتكونُ (( أوْ ) )للتنويعِ.
وجاءَ المؤلِّفُ بهذا الحديثِ معَ أنَّ الأوَّلَ والثانيَ مُغْنِيَانِ عنهُ؛ لأنَّ كثرةَ الأدلَّةِ ممَّا يُقَوِّي المدلولَ، أرَأَيْتَ لوْ أنَّ رَجُلاً أخبرَكَ بخبرٍ فوَثِقْتَ بهِ، ثمَّ جاءَ آخرُ وأخبَرَكَ بهِ ازْدَدْتَ تَوَثُّقًا وقوَّةً.
ولهذا فَرَّقَ الشارعُ بَيْنَ أنْ يأتيَ الإنسانُ بشاهدٍ واحدٍ أوْ شاهديْنِ.
وظاهرُ صنيعِ المؤلِّفِ أنَّ حديثَ أبي هريرةَ: (( مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا ) )أنَّهُ موقوفٌ؛ لأنَّهُ قالَ: عَنْ أبي هريرةَ، ولكنَّهُ لمَّا قالَ في الَّذِي بعْدَهُ (( موقوفًا ) )ترَجَّحَ عِنْدَنا أنَّ الحديثَ الذي قبلَهُ مرفوعٌ.
قولُهُ: (مرْفوعًا) أيْ: إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
قولُهُ:
(( لَيْسَ مِنَّا ) )تقَدَّمَ الكلامُ على هذِهِ الكلمةِ، وأنَّها لا تدلُّ على خروجِ الفاعلِ عَن الإسلامِ، بَلْ على حَسَبِ الحالِ.
قولُهُ: (( تَطَيَّرَ ) )التَّطَيُّرُ هوَ التشاؤمُ بالمَرْئِيِّ أو المسموعِ أو المعلومِ أوْ غيرِ ذلكَ، وأصلُهُ مِن الطَّيْرِ؛ لأنَّ العربَ كانوا يتَشَاءَمُونَ أوْ يتفاءَلُون بِها، وقدْ سَبَقَ ذلكَ.
ومنهُ ما يحْصُلُ لبعضِ الناسِ إذا شَرَعَ في عملٍ، ثُمَّ حصلَ لهُ في أوَّلِهِ تعَثُّرٌ، تركَهُ وتشاءمَ، فهذا غيرُ جائزٍ، بلْ يعتمدُ على اللهِ، ويتَوَكَّلُ عليهِ، وما دُمْتَ أنَّكَ تعلمُ أنَّ في هذا الأمرِ خيرًا فغَامِرْ فيهِ ولا تَشَاءَمْ؛ لأنَّكَ لمْ تُوَفَّقْ فيهِ لأوَّلِ مَرَّةٍ.
فَكَمْ منْ إنسانٍ لم يُوَفَّقْ في العملِ أوَّلَ مَرَّةٍ، ثمَّ وُفِّقَ في ثاني مَرَّةٍ أوْ ثالثِ مَرَّةٍ.
قولُهُ: (( أوْ تُطُيِّرَ لَهُ ) )بالبناءِ للمفعولِ، أيْ: أَمَرُ مَنْ يَتَطَيَّرُ لهُ، مثلَ: أنْ يأتيَ شخصٌ ويقولُ: (سأُسَافِرُ إلى المكانِ الفلانيِّ، وأَنْتَ صاحبُ طَيْرٍ، وأُرِيدُ أنْ تَزْجُرَ طَيْرَكَ؛ لأنْظُرَ هَلْ هذهِ الوِجْهةُ مباركةٌ أمْ لا) فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ فَقَدْ تبرَّأَ مِنْهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
وقولُهُ: (( مَنْ تَطَيَّرَ ) )يشملُ مَنْ تطيَّرَ لنفسِهِ أوْ تطَيَّرَ لغيرِهِ.
وقولُهُ:
(( أوْ تَكَهَّنَ أوْ تُكُهِّنَ لَهُ ) )سَبَقَ أنَّ الكهانةَ ادِّعَاءُ علمِ الغيبِ في المستقبلِ، يقولُ: سيكونُ كذا وكذا، وربَّما يقعُ، فهذا مُتَكَهِّنٌ، ومِن الغريبِ أنَّهُ شاعَ الآنَ في أُسْلُوبِ الناسِ قوْلُهُم: (تَكَهَّنَ بأنَّ فلانًا سيأتي) ويُطْلِقُونَ هذا اللفظَ الدالَّ على عَمَلٍ محرَّمٍ على أمْرٍ مُباحٍ، وهذا لا ينبغِي؛ لأنَّ العامِّيَّ الذي لا يُفَرِّقُ بينَ الأمورِ يظُنُّ أنَّ الكَهَانَةَ كُلَّها مباحةٌ بدليلِ إطلاقِ هذا اللفظِ على شيءٍ مباحٍ معلوْمٍ إباحتُهُ.
قولُهُ: (( أوْ تُكُهِّنَ لَهُ ) )أيْ: طَلَبَ مِن الكاهنِ أنْ يتكَهَّنَ لهُ، كأنْ يقولَ للكاهِنِ: ماذا يُصِيبُنِي غدًا؟
أوْ في الشهرِ الفلانيِّ؟
أوْ في السنةِ الفُلانيَّةِ؟
وهذا تَبَرَّأَ مِنْهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
(8) قولُهُ:
(( أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ ) )تقدَّمَ تعريفُ السحرِ؛ وتقدَّمَ بيانُ أقسامِهِ.
قولُهُ: (( أَوْ سُحِرَ لَهُ ) )أيْ: طلَبَ مِن الساحِرِ أنْ يسْحَرَ لهُ؛ ومنهُ: النُّشْرَةُ عَنْ طريقِ السحرِ، فهيَ داخلةٌ فيهِ؛ وكانوا يستعملونَها على وُجُوهٍ متنوِّعَةٍ:
منها:
أنَّهم يأتونَ بطَسْتٍ فيهِ ماءٌ، ويصُبُّونَ فيهِ رَصَاصًا، فيتكَوَّنُ هذا الرصاصُ بوجهِ الساحرِ، أيْ: تكونُ صورةُ الساحرِ في هذا الرصاصِ، ويُسَمِّيهَا العامَّةُ عنْدَنا (صَبَّ الرصاصِ) وهذا مِنْ أنواعِ السحرِ المُحَرَّمِ، وقدْ تبَرَّأَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منْ فاعلِهِ.
والشاهدُ مِنْ هذا الحديثِ: قولُهُ: (( وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا.. ) )إلخ.
وقولُهُ: (ورواهُ الطَّبرانيُّ في(الأوسطِ) بإسنادٍ حسنٍ مِنْ حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ... إلخ) فيكونُ هذا مُقَوِّيًا للأوَّلِ.
قولُهُ: (قالَ البَغَوِيُّ: العَرَّافُ الذي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأمورِ بِمُقدِّمَاتٍ...) العرَّافُ: صيغةُ مبالغةٍ، فإمَّا أنْ يُرَادَ بها الصيغةُ، وإمَّا أنْ يُرَادَ بها النسبةُ، وهوَ الذي يَدَّعِي معرفةَ الأشياءِ، وليسَ كلُّ مَنْ يدَّعِي معرفةً يكونُ عرَّافًا، لكنْ مَنْ يدَّعِي معرفةً تتعلَّقُ بعلمِ الغيبِ، فيدَّعِي معرفةَ الأمورِ بمقدِّماتٍ يستدلُّ بِها على مكانِ المسروقِ والضالَّةِ ونحوِها.
وظاهرُ كلامِ البَغَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ أنَّهُ شاملٌ لِمَن ادَّعى معرفةَ المستقبلِ والماضي؛ لأنَّ مكانَ المسروقِ يُعْلَمُ بعدَ السرقةِ، وكذلكَ الضالَّةُ قَدْ حَصَلَ الضَّيَاعُ، ولكنَّ المسألةَ لَيْسَت اتفاقيَّةً بَيْنَ أهلِ العلمِ؛ ولهذا قالَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: ( وقيلَ: هوَ - أي العرَّافُ - الكاهنُ ) .
والكاهنُ هوَ الذي يُخْبِرُ عَن المُغَيَّبَاتِ في المستقبلِ.
قولُهُ: (وقيلَ: هُوَ الذي يُخْبِرُ عَمَّا في الضَّمِيرِ) أيْ: أنْ تُضْمِرَ شيئًا ، فتقولُ: ما أَضْمَرْتُ؟
فيقولُ: أضمرْتَ كذا وكذا.
أو المُغَيَّبَاتِ في المستقبلِ، تقولُ: ماذا سيحدثُ في الشهرِ الفلانِيِّ في اليومِ الفلانِيِّ؟ ماذا ستلدُ امرَأَتِي؟
متى يَقْدَمُ ولَدِي؟
وهوَ لا يدْرِي؟
والخلاصةُ:
أنَّ العلماءَ اختلفوا في تعريفِ العرَّافِ:
فقيلَ:
هوَ الذي يدَّعِي معرفةَ الأمورِ بمقدِّمَاتٍ
يستدلُّ بِها على مكانِ المسروقِ والضَّالَّةِ ونحْوِها، فيكونُ شاملاً لِمَنْ يُخْبِرُ عَنْ أُمُورٍ وَقَعَتْ.
وقيلَ:
الذي يُخْبِرُ عمَّا في الضميرِ.
وقيلَ:
هوَ الكاهنُ، والكاهنُ هوَ الذي يُخْبِرُ عَن المغيَّباتِ في المستقبلِ.
قولُهُ:(وَقالَ
أَبو العَبَّاسِ ابنُ تَيْمِيَةَ)ظاهرُ كلامِ الشيخِ: أنَّ شيخَ الإسلامِ جزَمَ بهذا، ولكنَّ شيخَ الإسلامِ قالَ: (وقيلَ العَرَّافُ) وذكَرَهُ بقيلَ، ومعلومٌ أنَّ ما ذُكِرَ بقيلَ لَيْسَ مِمَّا يُجْزَمُ بأنَّ الناقلَ يقولُ بهِ، صحيحٌ أنَّهُ إذا نَقَلَهُ ولمْ ينْقُضْهُ، فهذا دليلٌ على أنَّهُ ارْتَضَاهُ.
وعلى كلِّ حالٍ فشيخُ الإسلامِ ساقَ هذا القولَ وارْتَضَاهُ ثُمَّ قالَ: ولوْ قيلَ: إنَّهُ اسمٌ خاصٌّ لبعضِ هؤلاءِ؛ الرَّمَّالِ والمُنَجِّمِ ونحوِهم، فإنَّهمْ يدخلونَ فيهِ بالعمومِ المعنويِّ؛ لأنَّ عندَنا عمومًا معنويًّا، وهو ما ثبتَ عَنْ طريقِ القياسِ، وعمومًا لفظيًّا، وهوَ ما دلَّ عليهِ اللفظُ، بحيثُ يكونُ اللفظُ شاملاً لهُ.
وقدْ ذكَرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ استخدامَ الإنسِ للجنِّ لهُ ثلاثُ حالاتٍ:
الحالُ الأُولَى:
أنْ يستخدِمَهم في طاعةِ اللهِ،
كأنْ يكونَ لهُ نائبًا في تبليغِ الشرعِ، فمثلاً إذا كانَ لهُ صاحبٌ مِن الجنِّ مُؤْمِنٌ يأخذُ عنهُ العلمَ ويتَلقَّى منهُ، وهذا شيءٌ ثَبَتَ أنَّ الجنَّ قدْ يتعَلَّمُونَ مِن الإنسِ، فيستخدمُهُ في تبليغِ الشرعِ لنُظَرَائِهِ مِن الجنِّ، أوْ في المعونةِ على أمورٍ مطلوبةٍ شرعًا، فهذا لا بأسَ بهِ، بلْ إنَّهُ قدْ يكونُ أمرًا محمودًا أوْ مطلوبًا، وهوَ مِن الدعوةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.
والجنُّ حَضَرُوا النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقرأَ عليهم القرآنَ، ووَلَّوْا إلى قومِهِم مُنْذِرينَ، والجنُّ فيهم الصلحاءُ والعُبَّادُ والزُّهَّادُ والعلماءُ؛ لأنَّ المُنْذِرَ لا بُدَّ أنْ يكونَ عالمًا بما يُنْذِرُ، عابدًا مُطِيعًا للهِ سبحانَهُ في الإنذارِ.
الحالُ الثانيةُ:
أنْ يستخدمَهُم في أمورٍ مُبَاحَةٍ،
مثلَ: أنْ يطْلُبَ منهم العونَ على أمرٍ مِن الأمورِ المباحةِ، قالَ: فهذا جائزٌ بشرطِ أنْ تكونَ الوسيلةُ مباحةً، فإنْ كانَتْ مُحَرَّمةً صارَ حرامًا، كما لوْ كانَ الجنِّيُّ لا يُسَاعِدُهُ في أمورِهِ إلاَّ إذا ذَبَحَ لهُ، أوْ سَجَدَ لهُ، أوْ ما أَشْبَهَ ذلِكَ.
ثم ذكَرَ ما وَرَدَ أنَّ عُمَرَ تأخَّرَ ذاتَ مَرَّةٍ في سفرِهِ، فاشتغلَ فِكْرُ أبي موسى، فقالوا لهُ: إنَّ امرأةً مِنْ أهلِ المدينةِ لها صاحبٌ مِن الجنِّ، فلوْ أمرْتَها أنْ تُرْسِلَ صاحبَها للبحثِ عَنْ عُمَرَ، ففعلَ، فذهبَ الجنِّيُّ ثمَّ رجعَ فقالَ: إنَّ أميرَ المؤمنينَ ليسَ بِهِ بَأْسٌ، وهوَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ في المكانِ الفلانيِّ، فهذا استخدامٌ في أمْرٍ مُبَاحٍ.
الحالُ الثالثةُ: